رجل التعليم : من قيادة الوطن الى زعامة التنسيقيات .
بقلم الدكتور سدي علي ماءالعينين ،اكادير،دجنبر،2023.
مقال (110),2023.
لم يستوعب الجيل الجديد من رجال أسرة التعليم أن الهيئات المدنية ببلادنا عبر التاريخ من جمعيات ونقابات واحزاب و هيئات حقوقية ،ومؤسسات منتخبة و أندية رياضية ،وعصب، ومراسلي الجرائد الوطنية ،ومؤسسي الجرائد الجهوية … كلها كانت على يد رجال التعليم و المحامون .
لقد كانوا هم صلب المؤسسات التي تعكس الدولة الحديثة المعارضة منها بالخصوص . سجون سنوات الرصاص كانت تعج بهم ، القيادات الوطنية للأحزاب و النقابات كانت منهم .
في كل المحطات الكبرى التي بصمت تاريخ البلاد كانوا هم الصفوة والقادة ،من المطالب بإصلاح الدستور ،الى تقديم مذكرات الإصلاح ،الى التشريع بالفرق النيابية ،و قيادة مسيرات فاتح ماي و مسيرات دعم القضايا العادلة من قضيتنا الوطنية إلى القضية الفلسطينية …
رجل التعليم كان رمزا من رموز الفعل السياسي و الإجتماعي والحقوقي والجمعوي ،لانه هو المثقف العضوي الذي يضحي من اجل وطن يتسع للجميع في تكافل وتضامن جنبا إلى جنب مع المحامين وباقي مكونات المجتمع.
ما الذي حدث ؟
لقد إختل ميزان الادوار في المجتمع حين تعمدت الدولة وضع خططها للقضاء على الطبقة الوسطى التي كانت تتشكل من هؤلاء الرجال الاشاوس الذين يتسلحون بالوعي والتضحية .
لقد كان من الممكن ان تضع الدولة مخططات التنمية و انتشال فئات واسعة من المجتمع من الجهل و الهشاشة ،لكنها لإعتبارات سياسية فضلت استهداف رجال التعليم .
فبعد ان لم يعد ملائما الإستمرار في التنكيل و الإعتقالات ، عمدت الدولة في شقها المخزني إلى تدجين رجال التعليم بالخصوص ،و دفعهم الى مغادرة مواقعهم الإعتيادية التي كانت تزرع الوعي في صفوف الجماهير .
- اول خطوة كانت فتح خزائن الدولة ليغرف منها المناضلون اموالا نزلت على اصحابها كهذايا “بابا نويل”, عشرات الملايين لضحايا الإعتقال التعسفي و لأسرهم . ليتحولوا بين عشية وضحاها الى رجال أعمال غادروا دور الشباب ،وإعتزلوا السياسة ليتفرغوا لمشاريعهم . وبدل أن يستثمروا في المواطن كما كان حالهم ،اصبحوا يستثمرون في كل ما يتحرك !!!
- ثاني خطوة كانت في إطلاق برنامج المغادرة الطوعية والتي تقضي بمغادرة رجال التعليم لحجرات الدراسة مقابل مبالغ مالية محترمة و كافية لإغراء اصحابها لمغادرة اسوار المؤسسات التعليمية . والمفاجئة / أو هكذا اريد بهم ، لم يغادر اغلبهم المدرسة فحسب ،بل غادروا الاحزاب والنقابات والجمعيات ليتحولوا هم أيضا إلى رجال اعمال يديرون مشاريع صغيرة تلهيهم عن ما سبق وان كانوا فيه في مركز القيادة !!!
- الخطوة الثالثة كانت في تحسين نظام التقاعد لدفع غالبية قدماء المدرسة العمومية من المدرسين للإقدام على التقاعد النسبي والهروب من “جحيم ” المدرسة العمومية للإرتماء في احضان التعليم الخصوصي و الضيعات الفلاحية الصغيرة للإنزواء و التمتع .
- الخطوة الرابعة جاءت نظير مغادرة رجال التعليم لدور الشباب و المقرات الحزبية و مكاتب الجمعيات الوطنية ،حيث كانوا يقدمون دروس الدعم والتقوية بالمجان إيمانا منهم بان مهنة المدرس كرسالة الرسل تستوجب التضحية و العطاء ، فكان البديل في أن فتحت لهم الدولة المجال لخلق مراكز للدعم والتقوية التي تحولت الى إبتزاز للتلاميذ و ضرب جيوب الآباء ،فكانوا هم السباقين لضرب مبدأ مجانية التعليم الذي كانوا يطالبون به زمن “صامدون”.
وفي نفس الوقت فتح المجال للزوجات و الاخوات ان يكون لهن نصيب في قيادة برنامج محاربة الأمية و بعدها برنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية… - الخطوة الخامسة والحاسمة ، كانت هي الفاصلة ،فبعد إفراغ المدرسة من رجالاتها الا من رحم ربك ،كان لابد من سد الخصاص ،فكانت البداية باساتذة سد الخصاص ،ثم المتعاقدون ،ثم اطر الأكاديميات ،وطبعا كل هؤلاء يلجون حجرات الدرس بعد تكوين فلكلوري /مكوكي ،ظاهره التكوين وباطنه تعليب عملية التعاقد .
إن رجل التعليم جسدوا عبر تاريخ بلادنا القيم الجمعية التي تغلب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة . وكل طريق غير هذا الطريق هو متاهة و تيه و تيهان.
رجال التعليم وهم يخوضون معركتهم من اجل الكرامة أشبه بالقادة الذين دخلوا الحرب وتركوا جنودهم خلفهم ، و ذهبوا للحرب و تركوا باقي فئات المجتمع قاعدة !!!
إن الأزمة التي يمر بها المجتمع والتي مست جيوب المواطنين ،وقيم التكافل الاجتماعي ، وإنتشار الفساد ،وتسلط المفسدين كانت تحتاج لرجال تعليم من طينة المناضلين الاوائل ، تحتاج لتضحياتهم و نضالهم من اجل كل المجتمع وليس لصالحهم فحسب .
في ازمنة الإلتزام و النضالات كان على الأوضاع التي تعرفها بلادنا ان يكون الرد الشعبي في إضراب عام ، وان يعلن طي صفحة السلم الإجتماعي الذي لم يفرز إستقرارا إجتماعيا كان هو المراد والمبتغى و المطلوب .
وكان بديهيا ان يكون رجال التعليم هم القادة وفي الصفوف الأمامية ،
لكن رجال التعليم الجدد إختاروا خوض معركتهم لوحدهم واداروا وجوههم لمواقعهم الطبيعية في قيادة نضالات المجتمع بمختلف فئاته .
غادروا الاحزاب ،و حلوا جمعيات الدعم ،و إختاروا عيشة الكماليات التي كان المدرس والمربي زاهدا فيها .
ونؤكد هنا اننا لا نعمم ،لكن لا نتردد في التأكيد أن ما نحن بصدده اصبح هو القاعدة وليس الإستثناء.
لقد تحول قادة المجتمع الى زعماء تنسيقيات فئوية ، تنظر الى الإصلاح من زاوية الزيادة في الأجور و تقليص ساعات العمل و المطالبة بالتعويض عن كل عمل اصله تطوعي و تربوي خارج المقررات الدراسية .ويعتبرون ذلك هو المدخل لإنقاذ المدرسة العمومية .
وطبيعي جدا ان تكون الدولة في حوارها مع هذا القطاع تتعامل بمنطق من يطالب بحقه من الكعكة في الوقت الذي كانت المدرس هو المثقف الوضعي الذي يطالب بالتوزيع العادل لكامل الكعكة !!!
وطبيعي جدا بهذا المنطق ان لا يضع المدرس إعتبارا لوضعية التلميذ والذي يرى انه لم يعد تربطه به روابط الأب و المربي ،بل هي علاقة اخد وعطاء ، والدولة تدفع المال ليقوم المدرس بتدريس الاطفال ،وكلما كان الدفع محترما كلما كان العطاء بحجم قيمة ما دفع .
لذلك تجد المدرس العمومي المضرب ، يواصل عمله بالمدرسة الخصوصية و بمراكز الدعم لان اصحابها يدفعون و بسخاء .
ونعود ونقول إننا لا نعمم ،لكننا نرصد الحالات التي لم تعد معزولة بل اصبحت شبه عامة .
ولن نلوم رجال التعليم الجدد, فقبلهم دهب رجال الصحة و خاصوا معركتهم وعادوا منتصرين ، وقبلهم قاوم المحامون نظام الضرائب و عادوا فائزين ، و لم يتطلب الأمر جهدا كبيرا من رجال التعليم العالي و نالوا فوق ما كانوا ينتظرون ….
فلماذا كل اللوم والعتاب للمدرس المغلوب على امره ؟
الجواب في التاريخ ، لان مهنة المدرس لم تكن خبزية ،ولم تكن فئوية ، مهنة المدرس كانت عنوانا للتضحية و التربية و التكوين و الوعي و الصمود و النضال …
غدا سيعود المدرس /الموظف الى قسمه وقد نال نصيبه من الكعكة مثل باقي الموظفين لياتي الدور على الجماعات المحلية وهكذا تباعا قطاع بقطاع .
هذا ما يسمى بتوزيع الكعكة ،ولا يهم بعدها من اخد اكثر من الآخر ،المهم انها وزعت .
اقول لرجال التعليم ، بعد ان تعودوا الى اقسامكم ،عودوا الى واجهاتكم الطبيعية ،عودوا إلى قيادة المجتمع بحس جماعي ووعي جمعي.
عودوا ليكون لقب المدرس يعكس بالفعل نظرة المجتمعات الى هذا الصرح الذي ترتكز عليه الأمة في بناء الاجيال .
فهل تعتبرون ؟