المواطنة شرط للوطنية: والجدية مفتاح المستقبل.
المواطنة شرط للوطنية: والجدية مفتاح المستقبل .
بقلم الدكتور سدي علي ماءالعينين .
في كل ثقافات العالم لا توجد وطنية مشروطة، فالوطن عزيز ولو جار وتعسف وجاحد،
الوطنية هي التي تدفع ذلك الجندي ان يمشي وسط أشلاء رفاقه في ساحة المعركة وهو متشبت بعلم بلاده ان لا يسقط، وكأن متر قماش ملون وهو يرفرف عاليا أغلى من أرواح الموتى من الجنود، وهم غارقون في الدم و اشلاءهم تكسو ساحة المعركة … لكن هذه هي الحقيقة وهذا هو عز الإنتماء، ومن يعتبر راية وطنه مجرد قماش ليس جديرا بالعيش تحتها ،ولا على الارض التي ترمز اليها ولا بين الناس الذين يكونون شعبها .
لكن لماذا في المغرب بعض الناس لا يعطون الإنطباع انهم وطنيون؟
ولماذا لا يرى بعضهم في وطنهم غير السلبيات؟، وتمتلكهم الحماسة كلما تعلق الأمر بنقد أوضاعهم؟
يبدو ان الأمر فيه سوء تقدير من الأجيال الجديدة لمكانة هذا الوطن وعزته .
فالمغرب لا يقدره إلا من عاش الغربة، تلك الغربة التي يلهت وراءها الشباب بحثا عن مالها غير واعيين بحجم معاناتها
و النفاق الإجتماعي الذي تعكسه مظاهر الغنى عند الجالية المغربية في كل صيف، هي سحابة عابرة تدفع الحالمين بالهجرة إلى الإنبهار بها.
مع ان مغربنا بكل نواقصه يملك من فرص العيش الكريم ما لا تملكه العديد من دول الجوار،
و لا ادل على ذلك قيمة عملته، و حجم شركاته ،لكن في المستوى الأول جانبه الأمني الذي ينعم به بفضل تماسك مكوناته في ظل ملكية متجذرة ومذهب مالكي يقطع الطريق على الشقاق الديني.
كما أن التكافل الإجتماعي بين مكونات المجتمع يعطي لمفهوم العشرة و الإنتماء طابعا خاصا لا تجده في العديد من الدول.
لكن رغم كل ذلك لا زالت الدولة تبارح مكانها في معالجة ملفات حارقة تأرق المواطن، ويمكن إجمالها في التعليم والصحة والعدل والشغل ،
وهذه القطاعات مجتمعة هي ركائز المواطنة والعيش الكريم، ومن لا يعيش كريما في وطنه لا يستطيع احد ان يطلب منه أن يكون وطنيا في سلوكه،
وكل من يتقول بأن المغرب منهمك في معالجة هذه القطاعات ،فعليه ان يعلم أن من ولد عشية إعتلاء الملك الحكم قد تجاوز عمره العشرين، وطيلة هذا العمر عاش المغرب فراغا قاتلا في مجال التأطير رغم الترسانة القانونية ورغم الخطب الملكية.
فقد تراجع العمل السياسي، و النقابي و الجمعوي ، وتعثرت مشاريع الدولة في المخيمات الصيفية و الربيعية و الأنشطة المدرسية، و الجمعيات الوطنية.
كل ما كان يعبر عن الشعب عبر عقود توارى إلى ما لا رجعة، فتوقفت الفرق المسرحية عن العمل، و غرق قطاع السينما في القصص العاطفية، و الإنتاج التلفزي في الرداءة ، وانكمشت الفرق الموسيقية، و لبس الغناء الفردي لباس التفاهة…
مات اتحاد كتاب المغرب، وماتت معه مبادرات الإحتفاء بالمبدعين، وقتلت الفلسفة وعلم الإجتماع وتحولت الجامعة إلى فضاء للإقتتال العرقي و تراجعت جودة البحث العلمي رغم تعدد الشعب و المسارات،
الشعب الذي اصيب بصدمة التكنولوجيا ،إنزوى في جلباب المحافظين حماية لنفسه، أو كردة فعل على اعتقاد خاطئ ان هويته في خطر.
كل هذا وغيره كثير يبرز حجم الهشاشة الفكرية والقيمية التي يتخبط فيها الشباب الذي يشكل نسبة كبيرة في المجتمع.
وهذه الهشاشة لا يمكن إلا أن تفرز جيلا من الضباع، مسكونين بهوس المغادرة والهجرة و الهروب ،و منساقين وراء الدعوات الهدامة ،و يكون الوطن بذلك يربي شعبه على معاداته وهدمه و تبخيس مساره.
عمل جبار بدل خلال العشرين سنة الماضية على مستوى البنية التحتية والمشاريع الكبرى و الخطط الإستراتيجية، وهذا وغيره كثير لا ينكره الا جاهد.
لكن العنصر البشري و عدالته الإجتماعية و حقوقه في فرص الشغل والسكن و التطبيب والتعليم كلها ينخرها الفساد،
فنفس الوجوه هي التي تحكم، ونفس الأصوات هي التي تهيمن على المجال السمعي البصري، ونفس الإدارة بلا روح، ونفس السلوكات بلا وازع بسبب انتشار الإفلات من العقاب، و التسامح مع جشع فئات إجتماعية تراكم الثروات و تحاصر الإقتصاد الوطني…
إن السكين في يد مواطن لا يجد أكلا يقطعه به ، يحوله إلى سلاح ضد الآخرين، و إن دراجة نارية لا تقود صاحبها إلى مقر العمل ،مؤكد ستقوده إلى الشوارع للسطو على ممتلكات الغير.
من أجل ذلك كله، فإن الوطنية في الإستثناء المغربي مشروطة بالمواطنة ،و الولاء للوطن مشروط بالعيش الكريم فيه،
غير ذلك فلا خير في أرض أهلها لا يحسون فيها بآدميتهم.
وهذه القساوة التي يعاملون بها وطنهم هي غضب عابر، وردة فعل وليست سلوكا متجذرا فيهم.
لكن كلما تأخرت الحلول كلما أصبحنا أمام جيل غير وطني
يقول جلالة الملك في إحدى خطبه : فالشباب المغربي، متى توفرت له الظروف، وتسلح بالجد وبروح الوطنية، دائما ما يبهر العالم، بإنجازات كبيرة، وغير مسبوقة، كتلك التي حققها المنتخب الوطني في كأس العالم.
فقد قدم أبناؤنا، بشهادة الجميع، وطنيا ودوليا، أجمل صور حب الوطن، والوحدة والتلاحم العائلي والشعبي، وأثاروا مشاعر الفخر والاعتزاز، لدينا ولدى كل مكونات الشعب المغربي
وهذا يعني ان الوطنية و المواطنة هي مغروسة في المغاربة لكنها تحتاج الى المناخ الملائم لبزوغها و انبعاثها ،
وقد قدم جلالته الوصفة العملية لتحقيق ذلك التلاحم و تلك الوحدة عبر كلمة مفتاحية فيها من الدلالات ما يجعلها فعلا تشخيصا دقيقا لواقع المغاربة ،و تقديما فعالا لمقترح الحلول ،
وهذه الكلمة هي الجدية و التي حدد جلالة الملك عناصرها ومقوماتها في تأكيده على أن الجدية يجب أن تظل مذهبنا في الحياة والعمل، وأن تشمل جميع المجالات:
الجدية في الحياة السياسية والإدارية والقضائية: من خلال خدمة المواطن، واختيار الكفاءات المؤهلة، وتغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين، والترفع عن المزايدات والحسابات الضيقة.
وفي المجال الاجتماعي، وخاصة قطاعات الصحة والتعليم والشغل والسكن.
كما أن الجدية التي نريدها، تعني أيضا الفاعلين الاقتصاديين، وقطاع الاستثمار والإنتاج والأعمال.
والجدية كمنهج متكامل تقتضي ربط ممارسة المسؤولية بالمحاسبة، وإشاعة قيم الحكامة والعمل والاستحقاق وتكافؤ الفرص.
هكذا جاء التوجيه الملكي ليحسم النقاش حول الوطنية و المواطنة ويؤكد أن الوطنية كامنة في كل مغربي ،وان المواطنة سلوك تربى عليه عبر التاريخ ،لكن قساوة الحياة و غياب الحقوق و تردي المعيشة كلها عناصر تزعزع منظومة القيم و تصيب المجتمع في علاقاته بالهشاشة و تربط مستقبل البلاد بحسابات خارج انتظارات المغاربة .
جلالة الملك يطرح موضوع الجدية ،بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني ،ولعل ابرزها في تقديري ان الدولة عليها ان تكون اولا جدية في مؤسساتها وسياساتها وجدية في تنزيل مضامين الدستور و جدية في تنفيد التوجيهات الملكية السامية و جدية في احترام القوانين الدولية ،و جدية في التعاطي مع انتظارات المواطنين ،وجدية في تدبير شؤونهم ،وساعتها سيكون المواطن البسيط جديا بالضرورة ،لأن البيئة التي يتواجد فيها كلها جدية .
هكذا تنبعث الوطنية والمواطنة من تحت الرماد لتوقد شعلة البناء و التنمية و الديموقراطية و التفاني في خدمة الوطن و مصالحه الكبرى التي تبدأ و تنتهي لضمان مصلحة مواطنيها.