رأيسلايد

زهرة عزّ: وأنت تغضب لا تنسى لغة الحوار من أجل الوطن

تنعدم الرؤية وتصبح الفوضى عنوان التيه حين يصبح الظلم سائدا، وتتمدد خريطة البؤس. يتبخر المنطق والعقل، مخلفا الفوضى والعبث… حاجبا رؤية الحقيقة التي يصر سراق الأحلام والأمان والآمال على أن الحقيقة هي الوطن وقد اختزل في راية وشعار. إن الوطن ليس مجرد نشيد، ولا جواز سفر، ولا بطاقة تعريف، ولا مجرد راية.
الوطن إحساس وانتماء، جذور وهوية، تاريخ ودم ونفس وعبق الأجداد، سيرة الشجر والنهر والبحر، والشمس والقمر، هو سيرة من رحلوا ومن في أفئدتنا خالدون، الوطن هو السكن والمسكون، الوطن هو الحضن الحنون الرؤوف الرحيم الغفور، الوطن حدائق معلقة في القلب الذي يستمد نوره من محبتنا لبعض البعض، الوطن أنا وأنت وابتسامتنا المشرقة ونحن نحتمي بدفء حضنه، ونحن نعانق كل الحقوق والواجبات. ‏‎هناك ألم وظلم ومعاناة، ‎فاغضب ثم حاور، أيها الشعب الأبي، وأسْمِع صرخاتك من به صمم، لربّما نظر أعمى البصر والبصيرة إلى فظاعة ما يرتكب في حق وطنك الجريح.
اغضب، فقد ينظر كل مسؤول أبعد من أنفه ومن مصالحه الضيقة. اصرخ، وأنت تحاور، فصوتك قوي نابع من عمق جرح أثقلته الآلام والإخفاقات طيلة سنين. صوت يندّد بزيف ألبسه العابثون جُبّة الوقار والصدق. اغضب، فقد تنتعل الحقيقة حذاءها الضائع، ويكنس الخريف أوراقا ذابلة تساقطت من ذاكرة التاريخ وما تزال تتشبث بالوهم في وجه الريح. اغضب، حتى تزحزح طاولة المساومات وجبر الخواطر.
حكومة ما تزال تتخبط في الظلام، تطرق أبوابا مغلقة، تستعطف، ترهب، ترغب، والكراسي تفرخ كتاكيت، وتزيد، الكعكة كبيرة، وما زال العاطي يعطي. امتيازات ورواتب يسيل لها اللعاب في وطن يهيم أبناؤه على أرصفة الجوع ومتاهات الضياع.
جهل وتفقير ووأد للأحلام والآمال، في بلد صار المعلم منبوذا، وصاحب الشهادة والكفاءة مشردا، وبرخص التراب بيعت القيم. فاغضب أيها الشعب الأبي كما تشاء، لقد أصبح مدّ الظلم قويا، جرف معه مكتسبات وحقوق انتهت إلى أعماق الغبن، ولن يتحقق التغيير بدون نضال، فهما كل ّ لا يتجزأ.
إن الوطنية ليست قفطانا، طرب الآلة وشباكية رمضان، والوطن ليس مجرد شعارات وأغان. الوطنية حب صادق ومسؤولية وارادة حقيقية للتغيير نحو الأفضل، ولن يتسنى ذلك دون القيام بثورة بيضاء في كل المجالات، وعلى كل الجبهات التي تقتضيها مصلحة الوطن.
انتفض الشعب، وهو يعلن دوما حبه دوما للملك، وانتفضت الاستفسارات والأسئلة، من وراء لا وعيه، طفت على السطح، وكان الوطن دائما في موعده ينتظر أجوبة تشفي غليله. المواطن يطالب بحقه في المعلومة، والثروة، والعدالة الاجتماعية، يتخوّف كثيرا من إمكانية افتعال مشاكل مزيفة تأخذه بعيدا عن واقعه المرير وتساؤلاته المنطقية؛ ففي رحلة البحث عن حلول لكل مشاكل وجروحات الوطن، يخاف أن يتلاشى في متاهات وخيبات، وقد يضيع مع الطريق، ويصبح حتى الإنجاز، إذا ما تحقّق، أكذوبة بطعم الخيبة، ثم قد يفرح بالوهم، فيزيد من مرارة ضياعه.
انتفض الشعب، وبوعي كامل بات ينتظر منذ عقود حلولا لواقعه، وأجوبة لتساؤلاته، بعيدا عن استراتيجية الإلهاء والضباب السياسي، والتضليل والتعويم والتسويف وهلم أوهام. يتساءل الشعب في خضم تحدياته، ما علاقة السياسة بالأخلاق في وطن ينزف ظلما؟ مع صرخة الريف انتبه إلى أن غالبية السياسيين أسقطوا مصلحة المواطن والوطن من قاموسهم، وأصبحت معظم الأحزاب مجرد دكاكين انتخابية، وأدرك أنهم حفدة ميكيافيلي، يؤمنون أن ليس هناك علاقة بين السياسة والأخلاق، مجرد علاقة حرب وصراع دائمة، وككل مكيافيلي، يؤكدون أن لا أخلاق في السياسة، ولا وطنا في القلب. وإلا لِمَ يتنازل السياسي عن قناعاته ومبادئه من أجل كرسي زائل؟
كرسي قد يصيبه بلعنة الخشب، فتصبح لغته خشبا، ومشاعره متخشبة، ويده وهو يمدها للسلام والتحية منشاراً، لا تُحرك فيه ساكنا، دموع أطفال على قارعة الطريق، بخوف وبحسرة يتابعون والدهم ينتحب من الحكرة بعد أن هدّم المسؤولون بيته، وأقلقوا سكينته، وعلى خذه يصفعه القائد العاري سوى من حقد وبؤس وضغينة.
اغضب كما تشاء، فقد حولوا البلد الغني الثري الكريم المعطاء إلى سوق نخاسة، وطوابير من أطفال جياع ينظرون إلى سلال الخضار والفواكه عند كل موسم وكل عيد، وبعيون حزينة يسألون أمهم متى موعد الغذاء؟؟ اغضب حيثما تشاء، وانتفض، في وجه من يكدسون الأموال والذهب والألماس… وينهبون الأراضي في بلد يستغيث ساكنه بعض الماء، وبعض الخبز، وكل حلمه إن مرض أهله أن يجد الوطن رحيما به وبدائه.
اغضب فالمستشفيات أصبحت فارغة إن وجدت، عارية إلا من الفساد، المرضى يعانقون قططا قد تمنحهم بعضا من دفء افتقدوه في حضن الوطن. اغضب في وجه الظلم وانتفض؛ فالقرى النائية لم تعد ترى سوى الله، وملائكته الصغار، الذين بفضلهم فقط ننعم برحمته تعالى يقطعون عشرات الكيلومترات مشيا على الأقدام، غارقون في بحر الهمّ وأحذيتهم وهم يسبحون ضد تيار اليأس والسيول، يرتعدون من الخوف والتعب، حتى يعانقوا حلما بعيدا معلقّا هناك على جدران متكسرة لأشباه أقسام.
والسياسي الجشع لا تحركه قرية بآلاف السكان، لا تتوفر على سيارة للإسعاف، فيضطر السكان لوضع مريضة تئنّ ألما و قهرا على ظهر حمار وكان بها أرحم، لا تحركه مأساة الشهداء، شهداء الطريق والحريق والغرق والهرس والمنشورين على أغصان الشجر…
تبحث في أسرار هذه المآسي، فتطالعك عناوين مسننة تدمي القلب، فساد وإهمال وحكرة وظلم وأفق مسدود،، فإلى متى تسكت على تخشب العقول والقلوب يا وطني؟؟؟ كل همّ السياسي أو المسؤول على كل شيء إلا على وطنه وعشيرته وذويه-إلا من رحم ربك، وهم القلة، نجوم وشمس الوطن-أن يغيّر سيارته، ويغدق على حاشيته، يفكر كيف يحافظ على امتيازاته، ويستفيد من علاقاته، لا مكان للمصلحة العامة إلا بما تخدمه وتمعن في اصطفاف الناس طوابير طويلة تنتظر صدقاته كسرة خبز بعد أن سرق رغيفهم؛ فمصالحه هي الأولى، يصول ويجول، في غياب أي رقيب أو حسيب.
أصرخ أيها المقموع فينا، فكم يؤلمني تبذير المال العام، باقتناء سيارات فارهة لمسؤولين وسياسيين، وهواتف ذكية لم تزدهم إلا غباء وأنانية، من أموال الشعب، في وطن مازال المرضى والجرحى في بعض مناطقه الغارقة في الهم والظلام، ينقلون على ظهر الحمير وأمواتهم ينقلون بشاحنات الأزبال في غياب سيارات الإسعاف، وما زال التلاميذ يقطعون عشرات الكيلومترات للوصول الى مدارسهم في غياب حافلة نقل مدرسية.
كم من سيارة إسعاف وكم من حافلة كان بالإمكان اقتناؤها عِوَض سيارات المرسيدس وسيارات 4×4، والهواتف والأيبادات كالتي وزعها كبيرهم مؤخرا على أعضاء البرلمان، والمفروض أن يكونوا ضمير الشعب وصوت من لا صوت له؟؟ لا أن يصموا آذانهم على كل الآهات ويرسلوا ضمائرهم في رحلات مكوكية خارج الوطن، كم من بيت كان سيفرح بالمبادرة؟ وكم من مشكل اجتماعي وصحي ونفسي كان ليحل؟؟
منطق غريب وعجيب، أليس من الأجدر والأجدى أن يبتسم الوطن ويسعد المواطن؟ أليس من الأجدى أن نصلح أعطاب التسيير والتدبير ونكنس الفساد بعيدا عن قميص الوطن؟؟ أليس من الأجدى أن نجتهد في ترشيد النفقات ووضع أولويات وأولويات الأولويات؟؟ فلم لا يكتفي المسؤولون والمسيرون بسياراتهم الخاصة مثلا؟؟ فالمرضى والتلاميذ والجرحى أولى بسيارات إسعاف وحافلات النقل.
أكيد جائزة المسؤولين الحقيقيين ذوي الضمائر الحية ستكون فورية، شعور بالرضى، وابتسامة المتضررين الأحياء منهم والأموات، وبالتأكيد حتى الأموات سيبتسمون وهم يَرَوْن كيف تكرّم أجسادهم، ولا تهان رميا في شاحنات رمي القمامة، لكنهم يا وطني لا يسمعون ولا يعوون حجم المأساة. اغضب واصرخ ملء الوطن، وطالب بأن يصبح تقييم عمل السياسي والمسؤول بعد مراقبته واجبا وطنيا.
اغضب وطالب بربط المسؤولية بالمحاسبة؛ فلن تتحقق العدالة الاجتماعية بدون تحقيق عدل وعدالة، والقضاء على الريع والفساد… اغضب، وطالب بأن يؤدي الكبار ضرائبهم، كما أنت. اغضب، وطالب بأن ترشِّد النفقات وتصرف لخلق ثروة منتجة يستفيد منها الجميع، اغضب، وطالب بتعليم جيد وصحة جيدة، اغضب حتى يستحي الفاسد من ثرائه والسياسي من تهاونه وأنانيته.
اغضب، حتى تسمع من به صمم. اغضب، فأنت قوة ضغط إيجابية، تَخْلق توازنا في عالم تعمه الفوضى والضوضاء، والبذاءة بامتياز، اختلط فيه الحابل بالنابل، وكل واحد يبحث من أين تؤكل كتف الوطن الجريح، وكيف يحصل عل أكبر قطعة من كعكة لم تنضج بعد.
اغضب، حتى تجف العيون الحزينة وتعود الابتسامات المسروقة والأحلام الموءودة. اغضب، وارفض تمرير أي قوانين فارغة دستوريا وحقوقيا، تكرِّس المزيد من الحيف والظلم. اغضب، حتى تقلّص الفوارق الاجتماعية، ويحترم القانون ويطبّق بعيدا عن الامتيازات.
اغضب، حتى تُسمع صوتك ذلك الدركي المالي ذي الوجهين، صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، الدركي الذي يضع مصالح لوبياته فوق كل اعتبارات موظِّفا ذيوله في كل الأوطان على حساب المقهورين والغلبة، ويضغط على جرح الوطن، ماسكا بتلابيبه بإحكام حدّ الخنق، يخطّط ويرسم لحكومته خارطة طريق، لا تزيد الفقير إلا فقرا.
اغضب، وابق ثابتا على تحقيق حلم بناء ديمقراطية حقيقية، تتبنى قيم الإنسانية، الحرية والمساواة، وتجعل منك مواطنا كامل المواطنة في ظل الاستقرار والوحدة الوطنية والترابية… يحترم واجباته وتحترم حقوقه. اغضب وأعلنها مدوية، أنك لن تشارك في جريمة متشعبة، مع سبق الإصرار والترصد، جريمة الصمت وسرقة الشعب، اغضب وأنت تعلن حبّك للوطن، وتدعو أن يحفظه الله آمنا مستقرا ويرفع الظلم عن أبنائه الفقراء. من حقّك أن تغضب، أيها المقهور العاجز سوى من حب الله، الوطن، والملك.
وأنت تغضب وتصرخ، لا تنسى الحوار واحترام الثوابت، وأنت تجلس إلى طاولة الحوار ترجم غضبك مطالب وحقوقا في ظل وحدة وازدهار الوطن، وانتصاراً للمؤسسات، ابتسم فالأمل كبير. كفى استخفافا بالوطن والمواطن، كفى من الاستهتار؛ فالوطن يعلو ولا يعلى عليه.
“أيقتلك الغياب، أنا يقتلني الحضور الباهت الذي يشبه العدم”، كما قال ذات صرخة في وجه بؤس الصمت محمود درويش. إن بناء الوطن يبدأ ببناء الحقوق، و”سأكتفي بحظ الطيور وحرية الريح، فقلبي الجريح هو الكون، والكون قلبي الفسيح…. اغضب أيها الشعب الأبي كما تريد فلا خير في وطنية لا تصرخ في وجه الظلم. إن غضبك فرصة تاريخية للبناء الحقيقي لمغرب الحق والقانون، في ظل الاستقرار والوحدة الترابية والوطنية، وللأمل بقية.

*كاتبة وروائية مغربية مقيمة في كندا



زهرة عزّ: وأنت تغضب لا تنسى لغة الحوار من أجل الوطن ‏‎


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى