ليس بنكيران وحده من اعترف بأن حزبه انهزم في جولة من جولات المعركة. الدولة فعلتها قبله، حين سارعت، غداة ظهور نتائج انتخابات 7 أكتوبر، إلى الإقرار بفشلها في مواجهة العدالة والتنمية على أرضه وأمام جمهوره؛ أرضه الإيديولوجية التي أوهمها يساريو “البام” بأنهم قادرون على منازلة “الإخوان” فيها وهزمهم بخطة: “حداثة بلا ديمقراطية”، ليتبين لها لاحقا أنها تم التغرير بها، وأنها لا يمكنها مجاراة فريق من العتاريس المحليين، مدعوما بألتراس قوي ومنضبط، بواسطة فريق هجين، خليط من يساريين معطوبين وليبراليين بسيقان رفيعة يركضون بحساب خوفا على سيقانهم من الإصابة.
أول شيء قامت به الدولة عقب هزيمة 7 أكتوبر، هو لملمة رجال وأعوان السلطة الذين زُج بهم في الشوارع والتظاهرات، جنبا إلى جنب مناضلي “البام”، وإعادتهم إلى مقاطعاتهم وقياداتهم، ثم تحويل الحزب الإيديولوجي (البام) إلى مجرد فريق احتياطي كبير (102 نائب)، يُستدعى لدعم ومساندة الأدوار المنوطة بالحزب البديل، التجمع الوطني للأحرار، والأحزاب الثلاثة المتحلقة حوله (103 نواب)، وقد كان أول معسكر خِيض في هذا الاتجاه، هو الذي دخله أخنوش معززا بفريق عبداللطيف وهبي “المُعارض” لاختطاف رئاسة مجلس النواب من فريق في الأغلبية هو البيجيدي، وإهدائه إلى فريق آخر من الأغلبية هو الاتحاد الاشتراكي، جزاءً له على حُسن انضباطه، وعدم انجراره للتحالف مع بنكيران وشباط.
والحقيقة أن الدولة لم تنجر للمواجهة الإيديولوجية ضد البيجيدي عن جهل، بل اضطرتها إليها النتائج الأولى للربيع العربي، في 2011، حين اتضح بأن نظامي بنعلي بتونس ومبارك بمصر وجدا نفسيهما دون أي سند سياسي- شعبي حقيقي لمواجهة الزحف الأخضر. ثم اضطرتها إليها النتائج الثانية للربيع العربي، عندما نجت تونس من المآل الدموي للثورات المضادة بفضل وجود يسار حقيقي، دافع عن الدولة وأقام نوعا من التوازن مع حركة النهضة في الشارع، فوجد المغرب أنه من المهم له تقديم نموذجه الخاص به في المنطقة، بالحفاظ على تجربة التعايش مع الإسلاميين، على قاعدة التغيير في ظل الاستمرارية، بعدما كانت جهات داخل الدولة قد شرعت في التخطيط لجعل مآل بنكيران وحزبه شبيها بالذي شهده مرسي وإخوانه، حين أُعطيت الأوامر لشباط بالانسحاب من الحكومة بالتزامن مع انطلاق مسار “الانقلاب الشعبي” في مصر. غير أن الذراع الإيديولوجي للدولة أوقعها في خطأ غير مسبوق، فبدل أن يتحول “البام” إلى حزب إداري، جرَّ الدولة إلى المجال الحزبي، هكذا لم يعد المقدم والشيخ والقايد.. يكتفون بعملية ضبط الحقل السياسي، بل أصبحوا ينزلون إلى المظاهرات للتنديد بـ”أخونة الدولة”.
الآن، الدولة عادت إلى أساليب الضبط الإدارية التقليدية، بوضع اليد على كل الأحزاب، مع عدم المغامرة بوضع زعماء غير مضمونين على رأسها، مثل أولئك الذين تشابكوا بالأيدي ليلة 8 أكتوبر بمنزل إدريس لشكر. مع توجه واضح نحو تقسيم كل حزب إلى تيارين: تيار الأعيان الذي يضمن المقاعد، وتيار التقنوقراط الذي يتم تطعيم الحزب بهم عقب كل مرحلة لقيادته وتمثيله في الحكومة. في هذا السياق سوف نشهد نهاية نموذج الزعيم السجالي الإيديولوجي النَّزِق، وظهور الزعيم الإداري الحكيم، فالدولة اعترفت بأنها أخطأت عندما وضعت على رأس الأحزاب كلاب حراسة بلا أنياب، تنبح أكثر مما تعض.