حمد الدرداري*
على الرغم من أن التعليم العمومي يعيش أزمات، فهو رابط أساسي بين الشعب والدولة، على أساس أن الشعب أهم عناصرها لكونه أساس سلطها، والتخلي عن الشعب هو فقدان لشرعية الحكومة، والتعليم العمومي يبقى مصدر طاقات الدولة الأساسية المتمثلة في الدفاع والأمن والقضاء والادارة والاستجابة لحاجياتها الضرورية، والإبقاء على مستقبل الرأسمال اللامادي البشري ومستقبل الأمن والدفاع والإدارة.
فلا ينبغي فصل أبناء هذه الشرائح الاجتماعية عن ماكينة الدولة للحفاظ على الارتباط العضوي بها. وإذا تقطعت صلة التعليم العمومي والصحة العمومية والتوظيف العمومي بالدولة، سوف تتقطع الاستجابة لحاجيات الدولة الأساسية، ولا يمكن للشرعية أن تستمر بالتعاقد بين السياسي والاقتصادي دون الاعتماد على الاجتماعي والإبقاء على الشعب كمركز في تكوين سلطة الدولة.
فعملية الحكم مثل البورصة معرضة للانهيار والافلاس، بل الحكم عقيدة، وامتلاك القوة والتحكم في الضرائب وأموال الشعب يقابله تجديد السياسات الاجتماعية والاقتصادية للشعب، والتغيير الذي حصل في مفهوم الدولة، قياسا على الارتباط بالمفهوم المتقلب عالميا، لا ينبغي أن يحجب الخصوصيات الوطنية، مع البحث في أزمة التخطيط الاستراتيجي للقضايا والسياسات الاجتماعية.
الإطار السياسي لسلطة اتخاذ القرار
بالعودة إلى أركان الدولة، وبالضبط ركن السلطة السياسية والهيئة التي تمتلك حق إصدار الأوامر وقوة إجبار الأفراد على الامتثال لها، نجدها تتسم بالطابع السيادي؛ أي استقلالية هذه السلطة عن أية سلطة خارجية أو مؤثرات داخلية. كما أنها سلطة مركزية ومصدر وحيد للقرار والتشريع الذي ينتظره الشعب، بما يفيد وحدة الأداء السياسي والقانوني القائم على مبدأ الشرعية وفق الاختصاصات الموكولة إليها. ومن حيث أصل هذه السلطة، فليست مرتبطة بنظرية القوة ولا بنظرية السلطة الأبوية، بل تعتمد على الشرعية الانتخابية، وبالتالي فهي مقيدة وليست مطلقة.
الإطار الدستوري والقانوني للقرار
انطلاقا من كون القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة وعلى الجميع الامتثال له، بما في ذلك الحكومة (ف6 من الدستور)، وأن الأحزاب والنقابات هي مؤسسات تمثل المواطنين على اختلاف تلويناتهم السياسية والاجتماعية، والأحزاب هي القناة الوحيدة للعبور إلى مناصب الدولة الحكومية، وهي مسؤولة عما هو متضمن في برامجها من سياسات اجتماعية، الشيء الذي على أساسه يصوت المواطنين، لاسيما وأن الحكومة هي امتداد للأحزاب السياسية، وأيضا البرلمان كمؤسسة تدافع عن الشعب في مواجهتها.
انطلاقا من ذلك، فالتمييز بين المواطنين جريمة يعاقب عليها القانون (ف19). والسلطات العمومية واجب عليها إحداث هيئات للتشاور معها في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها، وواجب عليها تعبئة كل الوسائل لتمكين المواطنين من الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة، وكذلك الأمر بالنسبة للشغل وولوج الوظائف حسب الاستحقاق (ف31).
وانطلاقا من التقيد بالدستور والالتزام بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة ووفق المقاربة التشاركية، فإن أي قرار حكومي جديد يهم المواطنين يتطلب استشارة واسعة لمكونات المجتمع المغربي مادام التوكيل الحكومي ليس مطلقا، وأن الشعب أمام قرار جديد يضر به بشكل كبير.
بالنسبة للنقابات فهي أيضا مسؤولة عن الدفاع عن الحقوق والمصالح الاجتماعية والاقتصادية للفئات التي تمثلها وعن القضايا العامة للمواطنين، لاسيما سياسة التشغيل والتعليم والصحة والتوظيف، بحكم أن المركزيات النقابية لها دور في تتبع هذه السياسات والوقوف على مكامن الخلل والاحتجاج باسم المواطنين على أي تجاوز أو نقصان مادامت هي مؤسسات دستورية تستجيب لنبض المواطنين.
دور المجلس الأعلى الاستشاري
بالنسبة للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي (ف168) باعتباره هيئة استشارية مختصة بإبداء الرأي حول السياسات العمومية والقضايا الوطنية التي تهم التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي وكذا المرافق العمومية المكلفة بهذه الميادين، ويساهم في تقييم السياسات والبرامج في هذا المجال، فإن صمته المتعلق بقرار إلغاء مجانية التعليم وفرض رسوم على الراغبين في إتمام دراستهم بالمؤسسات العمومية يمثل إغفالا لتتبع القضايا المسندة له بصريح النص الدستوري.
والقول بأن إبداء الرأي في مشروع القانون الإطار لإصلاح المنظومة التربوية جاء بناء على طلب من رئيس الحكومة، يقود إلى التساؤل عن مآل الخطب الملكية المتعلقة بضرورة إصلاح التعليم العمومي، وتكليف جلالته للمجلس، ونوع تمثيلية الحكومة الحالية، وهي حكومة تدبير الأمور الجارية، والفراغ السياسي في ظل عدم شروع مجلس النواب في عمله لعدم الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة.
كما أن المجلس لا يمكن أن ينتظر طلبا من أية مؤسسة لأن مهامه مستقلة، والرأي الذي يقدمه ملزم للدولة وليس فقط للحكومة، أما الرأي الذي يعني الحكومة فهو البرلمان لأنه خصم سياسي وله حق التشريع في الموضوع.
وبالنسبة لاعتبار الرسوم شكلا من أشكال التضامن الوطني ومساهمة الأسر الميسورة في حسن سير المدرسة ونجاعة أدائها، وليست مقابلا ماليا لتكاليف الدراسة، ولا تفيد في أي تراجع عن مجانية التعليم والتكوين، يبقى كلاما غير واقعي وبعيد عن المعرفة الحقيقية لوضع غالبية المواطنين.
بل إن التوجه إلى إلغاء مجانية التعليم ساهم فيه بعض المواطنين الذين يلجؤون إلى القطاع الخاص لتعليم أبنائهم، وأصبحت دروس الدعم والتقوية المؤدى عنها لتحسين وضمان النجاح محفزا، علما أن المستوى العام متقارب، بل أثبت الولوج إلى الجامعة أن مستوى طلبة القطاع الخصوصي في الغالب متساوٍ أو أضعف من العمومي لكون الأداء يضمن النجاح. وعلى هذا الحال تم إعطاء الضوء أخضر للتخلص مما تبقى من التعليم العمومي.
إن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي كهيئة استشارية مستقلة، وقوة اقتراحية، وفضاء للتقييم والتفكير الاستراتيجي في القضايا الوطنية والسياسات العمومية والبرامج الإصلاحية التي تهم ميادين التربية والتكوين والبحث العلمي، لم يقدم تصورا واضحا عن جنسية التعليم المغربي وضوابطه ومثله ومناهجه ومقرراته، ولم يستجب لنداء ملك البلاد الرامي إلى إصلاح التعليم العمومي بدلا من “رسمنته” (من الرسوم) والسماح بالاتجاه نحو خوصصته وتسليم تربية وتعليم كل المواطنين للخواص تدريجيا؛ وبذلك يمثل انتقاصا من أدوار الدولة.
ورغم ما صدر عن المجلس الأعلى في دورته العاشرة، واستنادا إلى الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي اعتبر الإنفاق على المدرسة في تأهيل الإمكان البشري وتنمية البلاد إنفاقا عاما، مع ملاءمة الإنفاق مع الحاجيات المستقبلية للمغرب، وتحمل الدولة القسط الأوفر من التمويل مع تنويع مصادره وضمان مجانية التعليم الإلزامي بأسلاكه الثلاثة: الابتدائي والإعدادي والثانوي، باعتباره واجبا على الدولة، فإن الواقع بعيد عن القول، وأن عدد الأطفال الذين لا يلتحقون بالمدرسة بسبب الفقر كثيرون، لاسيما في البوادي وهوامش المدن. ورغم القول بالإعفاء الآلي للأسر المعوزة، فإن الأمر لا يصل إلى الإعفاء أحيانا.
أما المذكرة الوزارية التي أصدرتها السلطة الوصية، وزارة التربية الوطنية، فتسمية مذكرة هي أولا تجنبا لتسمية مرسوم الذي يفرض وجوبا عرضه على المجلس الوزاري، وبالتالي تفادي اطلاع الملك عليه. كما أن القرار صدر في مجال يدخل ضمن اختصاص البرلمان الذي لم يشتغل بعد، والذي، حسب الدستور (ف71)، يختص بالتشريع في مجال النظام الأساسي للوظيفة العمومية وعلاقات الشغل، وتحديد التوجهات والتنظيم العام لميادين التعليم والبحث العلمي والتكوين المهني، والنظام الضريبي، وتأميم المنشآت، ونظام الخوصصة، كاختصاصات موكولة للبرلمان. وبالتالي فإن هذا الاختصاص غير دستوري.
والتعاقد لا يمكن أن يسري على المادة الأساسية في الدولة ويشكل خطورة على موضوع التعاقد، باعتبار التلميذ موضوعا عاما لا يمكن أن يكون محل تعاقد أطراف غير متكافئة، فذلك يطرح تبعات جانبية تمس كرامة الإنسان وسوء تدبير شؤونه الأساسية عن طريق أساتذة نفسيتهم غير راضية عن طريقة تشغيلهم، وهذا له انعكاس على المردودية وعلى وضعيتهم القانونية، ماليا ومهنيا، والمسؤوليات المختلفة المرتبطة بالعمل …الخ.
لا تختلف شعوب العالم عن كون التعليم ركيزة التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية والاستقرار في كل المعاملات والعادات، وأنه آلية لقياس التطور، وهو أصل الدولة والاقتصاد والسياسة والثقافة والصناعة والتطور… وكل تصريف لمعادلات الصراع بين الغنى والفقر دون الارتكاز إلى الالتزام بحقوق الإنسان سيؤدي إلى تدهور البنية المجتمعية للدولة وهيمنة القدرة المالية على القدرة الفكرية.
إن تغييب مجانية التعليم سيزيد الوضع تأزما ويزيد من إنجاب الفقراء للثوار. ويبقى الخوف من إلغاء مجانية التعليم بدلا من إصلاحه مسألة قد تنهي سيادة حكم الدولة الوطنية وإضعاف العلاقات والروابط القائمة بين ملكية الشعب وشعبية الملك. فهل يكون الأمر تآمرا على تعليم الوطن؟
*كاتب وخبير استراتيجي