شكّلت ظاهرة احتلال الملك العام نقطة رئيسية في جدول أعمال الدورات العادية لشهر يناير الجاري لثلاث مقاطعات من مجموع ست مقاطعات مشكلة للجماعة الحضرية لفاس، حيث توقفت عند هذه الظاهرة المجالس المنتخبة لكل من مقاطعات زواغة وسايس والمرينيين.
ولم يعد تفشي هذه الظاهرة محط قلق المنتخبين والسلطات المحلية والإقليمية بمدينة فاس، فحسب؛ بل أصبحت تثير سخط سكان عدد من الأحياء، حيث ضاق بهم الدرع من الباعة الجائلين الذين يحاصرون منازلهم من كل صوب وحدب.
كما أضحت أبواب المساجد عبارة عن “سويقات” تُعرض فيها مختلف السلع، ناهيك عن الساحات العمومية وأرصفة الشوارع التي تحولت من ممرات مخصصة للراجلين إلى فضاءات مزدحمة بكراسي المقاهي وبضائع المحلات التجارية وسلع الباعة الجائلين.
تفاقم الظاهرة يوما بعد يوم
لم تعد ظاهرة احتلال الملك العام تقتصر على الأحياء الشعبية بمدينة فاس؛ بل امتدت إلى أحيائها العصرية وغزت الشوارع الرئيسية وسط المدينة، كما هو الشأن بالنسبة إلى شارع محمد الخامس وشارع للا مريم وشارع السعادة وشارع الكرامة بحي مونفلوري، وهي شوارع تحولت إلى أسواق مفتوحة تختنق معها حركة المرور، فيجد الراجلون صعوبة بالغة في استعمال الرصيف، ما يضطرهم إلى السير جنبا إلى جنب مع السيارات وسط الشارع.
الوضعية نفسها بالنسبة إلى مدخل حي اعوينات الحجاج، أحد أكبر الأحياء الشعبية بمدينة فاس، الذي أضحت عدد من الشوارع المؤدية إليه وإلى حي ليراك والقدس مقطوعة بالمرة أمام حركة مرور السيارات بعد أن قام الباعة الجائلون وأصحاب المحلات التجارية باحتلال وسط الشوارع بعرض سلعهم المختلفة؛ وهو ما يضطر معه السائقون، الذين تقودهم الظروف إلى تلك المقاطع، إلى البحث عن منافذ للخروج من تلك المتاهات لمواصلة طريقهم إلى أحياء النرجس أو صوب المركز الاستشفائي الجامعي الحسن الثاني أو نحو كلية الطب.
ولا يختلف الوضع بهذا الحي عن مثيله بأحياء بنسودة التي ما أن يدخلها المرء حتى يجد نفسه وسط سوق مفتوحة من كل جانب، تعج بمختلف أنواع المعروضات من ألبسة وخضر وفواكه وأكلات خفيفة؛ وما يقال عن الباعة الجائلين يقال عن أصحاب المحلات التجارية وأصحاب المقاهي بهذه الأحياء، فلم يكتفوا، فقط، بوضع الكراسي والطاولات على الأرصفة، بل قاموا بتسييج مساحات من الشارع العام وألحقوها بمحلاتهم.
ظاهرة احتلال الملك العام بمدينة فاس لم تعد مقتصرة على شوارع وأزقة المدينة، بل امتدت لأبواب المساجد التي تغري الباعة الجائلين لعرض سلعهم، ليس، وحسب، خلال فترة أداء الصلوات الخمس، كما كان الشأن عليه خلال زمن غير بعيد، ولكن أضحت هذه الفضاءات مكانا لاستقرار هذه الفئة من الباعة، كما هو الشأن بالنسبة إلى مسجد النور بحي النرجس الذي تحاصره “طاولات” الباعة من كل الجهات؛ حتى أن مجموعة منهم دفعهم جشعهم وغض الطرف عنهم من لدن السلطات إلى احتلال فضاء مجاور للمسجد كان يستغله الناس لأداء صلاة الجمعة، حين تغص قاعات الصلاة به بالمصلين.
ولم تنفع العرائض العديدة التي رفعها سكان عدد من الأحياء إلى السلطات من أجل تخليصهم من سيف الباعة الجائلين الذين جعلوا من أحيائهم فضاءات يعمها الضجيج والكلام النابي، كما هو الشأن بالنسبة إلى حي الزهور وحي واد فاس اللذين احتج قاطنوهما، غير ما مرة، على استفحال هذه الظاهرة، بعد أن أصبح يصعب عليهم الوصول إلى أبواب منازلهم، ناهيك عن الأزبال التي يتركها الباعة بعين المكان، حين ينفض جمعهم في ساعة متأخرة من الليل.
وتبقى حالة استيلاء الباعة على ساحة 11 يناير الكائنة بمدخل حي بندباب، التي تشكل واحدة من أكبر المدارات الطرقية بمدينة فاس، تثير الكثير من الاستغراب، نظرا لتحويلها إلى سوق قارة لعرض مختلف البضائع؛ حتى أن بعض الباعة اتخذ نافورة، تتوسط الساحة ذاتها، لعرض سلعته أمام صمت مطبق للمسؤولين.
وقد أدى هذا الوضع، فضلا عن تشويه جمالية المكان، إلى عرقلة حركة السير والجولان بهذا المدار الطرقي الذي تتفرع عنه الشوارع المؤدية إلى أحياء عين هارون وبلخياط وباب السيفير وبن دباب؛ دون أن تنفع نداءات فعاليات المجتمع المدني والفاعلين المحليين بتحرير هذا الفضاء.
حلول لمعالجة الظاهرة ولكن…
أقدمت مقاطعة سايس، في دورة يناير الجاري، على تعيين لجنة للخبراء لدراسة ظاهرة الباعة الجائلين ولاقتراح الإجراءات الكفيلة بالحد منها، وذلك بتنسيق مع السلطات المحلية، حيث تقرر العمل بشكل تصاعدي على إيجاد الحلول لهذه الظاهرة، وخاصة في النقط السوداء.
كما اتخذت المقاطعة ذاتها قرارا يقضي بفتح أربع أسواق جديدة ستخصص لنقل ما يعرف بــ”الفراشة” إليها، وهي التجربة نفسها التي اقتفت أثرها باقي المقاطعات الأخرى المكونة للجماعة الحضرية لفاس.
من جهته، كان سعيد زنيبر، والي جهة فاس مكناس، قد عبّر عن قلقه من تفشي ظاهرة الباعة الجائلين بشوارع وأزقة مدينة فاس؛ وهو ما أفصح عنه من خلال مراسلته الموجهة، بتاريخ 22 يناير من السنة المنصرمة، إلى إدريس الأزمي الإدريسي، رئيس الجماعة الحضرية لفاس، والتي حث من خلالها الوالي المنتخبين على تخصيص الاعتمادات المالية اللازمة لهيكلة هذا القطاع غير المنظم، نظرا، بحسبه، لاستفحال الظاهرة بشكل ملحوظ بمختلف الساحات والممرات العمومية وتسببها في أزمة حقيقية للتجار المهيكلين؛ ليعود الوالي للتأكيد، خلال دورة فبراير للمجلس الجماعي لفاس، على أن الباعة الجائلين يخدشون صورة مدينة فاس، ويعرقلون حركة السير، فضلا عن عرضهم لسلع تفتقر للجودة المطلوبة وللوقاية اللازمة، إلى جانب احتلالهم للملك العام.
وتقترح السلطات الإقليمية بمدينة فاس، فضلا عن هيكلة الباعة الجائلين بتمكينهم من محلات بمركبات تجارية خاصة بهم، تخصيص فضاءات قارة لهم وخاصة بحي المصلة وحي الأطلس؛ وهي المقترحات التي يترقب المهتمون أن يكون مصيرها مثل سابقتها من التجارب السابقة التي باءت بالفشل؛ كما هو الشأن بالنسبة إلى قيسارية باب بوجلود التي جرى توزيع دكاكينها على “الفراشة” المحتلين للساحة المجاورة لرأس الطلعة الكبيرة، قبل أن تعود حليمة إلى عادتها القديمة ويعود معها الفضاء نفسه يغص بالتجار العارضين لسلعهم، وكأن شيئا لم يكن.