ست سنوات مرت على إقرار دستور فاتح يوليوز 2011، وهي السنوات التي عاش فيها المشهد السياسي المغربي عددا من المحطات المهمة في تاريخه؛ ابتداء من انتخابات 25 نونبر التشريعية، والتي أفرزت لأول مرة في تاريخ المغرب فوز حزب إسلامي وقيادته لأول ائتلاف حكومي في ظل الدستور الجديد، ووصولا إلى الاحتقان السياسي الذي تعيشه منطقة الريف طيلة ثمانية أشهر.
نقاشات مستفيضة أثيرت طيلة السنوات الأولى التي تلت إقرار وثيقة دستورية استجاب بها الملك محمد السادس للأصوات الغاضبة في الشارع، إبان ربيع عربي مر ساخنا على عدد كبير من دول المنطقة العربية والمغاربية. ومن بين أهم هذه النقاشات، سلطت الكثير من الأضواء حينها على مدى استمرار هيمنة المؤسسة الملكية على المشاريع الإستراتيجية والمخططات الكبرى التي تتبناها المملكة، طبقا للفصل الـ49 من الدستور، بالمقارنة مع أدوار الحكومة في هذا الجانب.
وفي الوقت الذي ذهب فيه عديدون إلى أن “التوجهات الإستراتيجية لسياسة الدولة”، كما جاءت في النص الدستوري، عبارة فضفاضة وتحمل العديد من الأوجه، اعتبر آخرون أن تقاطع الصلاحيات بين القصر والحكومة سيتضح أكثر في تنزيل منطوق الدستور على أرض الواقع؛ وهو النقاش الذي اشتهر حينها تحت مسمى “التنزيل الديمقراطي للدستور”.
بعد كل هذه السنوات من الممارسة في ظل الدستور الجديد، أصبحت العلاقة اليوم بين اختصاصات الحكومة على مستوى الأوراش الكبرى والمشاريع الإستراتيجية واضحة ولا لبس فيها؛ وهي العلاقة التي يراها نجيب أقصبي، الخبير الاقتصادي، غير متكافئة، وتؤشر على بسط المؤسسة الملكية ليدها على كل المشاريع الإستراتيجية المهمة، دون الحديث عن الوزارات والمؤسسات السيادية المتعارف عليها، في مقابل ترك مجالات محدودة للحكومة المنتخبة يعتبرها المتحدث ذاته مجالات تتحمل فيها هذه الأخيرة مسؤولية اتخاذ القرارات اللا شعبية.
ولتوضيح دواعي تبنيه لهذا الرأي، يشرح أقصبي في حديث مع هسبريس أن “كل السياسات العمومية ذات الطابع الإستراتيجي تبقى من صلاحيات المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك؛ وهو ما يجعل، في حالة تبني تأويل يذهب إلى توسيع هذه المجالات، إلى احتكار المؤسسة الملكية لكل السياسات العمومية التي قد يتم إعطاؤها طابع الإستراتيجية”.
وأبرز أقصبي أن المفروض في تنزيل مضامين الفصل الـ49 من الدستور هو حصر المجالات الإستراتيجية فقط في صلاحيات المؤسسة الملكية، مقابل ترك باقي المجالات التي لا تدخل تحت هذه اليافطة للحكومة؛ غير أن هذا الأمر لم يتحقق بحسب ما أورده المتحدث ذاته، الذي زاد بالقول: “أصبحت بعض المجالات تحمل الطابع الإستراتيجي وهي ليست كذلك إذا أخذنا على سبيل المثال القانون المالي الذي تتم المصادقة عليه داخل المجلس الوزاري، بالرغم من كونه مجرد وثيقة تدبر مالية سنة واحدة لا أقل ولا أكثر”.
واعتبر أقصبي أن “تنزيل الوثيقة الدستورية على أرض الواقع كان غير ديمقراطي وقريبا من منطق الملكية التنفيذية أكثر من الملكية البرلمانية”، مستشهدا على ذلك بأن “كل المجالات، الصغيرة منها والكبيرة، أصبحت تحت وصاية المؤسسة الملكية”؛ وعلى رأسها “المخططات الكبرى على غرار مخطط المغرب الأخضر والمخطط الأزرق، واتفاقيات التبادل الحر التي تُقرر داخل مجموعة صغيرة من مستشاري الملك والوزراء المقربين من المحيط الملكي”.
وإلى جانبها، تبقى كذلك المشاريع الكبرى، كإستراتيجية الطاقات المتجددة التي انخرط فيها المغرب والطرق السيارة والموانئ والمطارات ومشروع القطار فائق السرعة، وأخرى أقل إستراتيجية كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، كلها في مجال اختصاص المؤسسة الملكية بحسب أقصبي دائما، الذي يرى أن “القرارات الصادرة بخصوصها تصدر جميعها من الديوان الملكي بعد أن كانت بعضها في وقت سابق بيد وزارات تابعة للحكومة”، مجددا تأكيده على أن هذه المعطيات “تجعلنا بدون شك أمام تأويل غير ديمقراطي للوثيقة الدستورية”.
عبد الخالق التهامي، الخبـير الاقتصادي المعتمد لدى البنك الدولي، له رأي آخر، إذ يرى أن لا تعارض مع الدستور في إشراف المؤسسة الملكية على المشاريع الإستراتيجية، على اعتبار أن “الفعالية الاقتصادية هي التي تهم في نهاية المطاف بالنسبة إلى البلد، وإذا ما انسقنا وراء نقاشات دستورية من هذا القبيل، فلن تتمكن حكومة ضعيفة مكونة من 6 أحزاب مثلا من ترجمة المشاريع الكبرى على أرض الواقع”.
وسجل التهامي، في تصريح خص به هسبريس، أن الدستور بالرغم من منحه صلاحيات أكبر للحكومة “فإن المؤسسة الملكية، من خلال ما اتضح لنا على أرض الواقع، تلعب دورا أكبر من الدور المنوط بالحكومة في ما يتعلق بالمشاريع الكبرى والسياسات الإستراتيجية، بل تغطي على دورها في الكثير من الأحيان، وهو ما لا أراه بالأمر السلبي”.
وعن الشيء الإيجابي في وقوف المؤسسة الملكية على أبرز المشاريع الكبرى، قال التهامي: “هناك التسريع في وتيرة هذه المشاريع والمراقبة، فعندما تكون المؤسسة الملكية وراء هذه المشاريع يكون الفاعلون الحكوميون مرغمين على لعب دور أكثر فعالية، مع تفادي تسييس هذه المشاريع”، مضيفا أن “عددا من المشاريع، كالطاقات المتجددة أو مخطط الإقلاع الصناعي، يبدو من خلالها أن الوزير الوصي على القطاع ينفذ الأوامر الملكية بدل البرنامج الحكومي”.
وعاد التهامي للفت الانتباه إلى أن الجانب السلبي الوحيد في هذه الوضعية هو التداخل بين اختصاصات مؤسستي القصر ورئاسة الحكومة فيما يتعلق بالأوراش الكبيرة والمشاريع الإستراتيجية ونظيرتها الأقل أهمية، بما يجعل من الصعب على هذه الأخيرة، حسب تعبير المتحدث، الإعلان عن حصيلتها الخاصة.
متابعة