مدينة تارودانت تخلد يوم عيد العمال فاتح ماي 2023 في صمت يشبه الحداد-ساحة أسراك نموذجا
* أحمد الحدري
منذ سنوات سبعينيات القرن الماضي الى الثمانينات و التسعينات وإلى غاية 2015 من هذا القرن ، كانت ساحات وشوارع مدينة تارودانت على موعد مع أفواج الطبقة العاملة المقسمة على نفسها بين تيارات نقابية مختلفة وان كانت الآمال والآلام توحدها مجتمعة ،كانت شوارع المدينة وساحتها ومنذ الصباح الباكر تشهد توافد أفواج العمال المحمولين على الشاحنات القادمة من ضيعات ومعاملة التلفيف بمختلف مناطق هوارة واولاد يحيا واولاد برحيل وحناجرهم تصدح بشعارات قوية تطالب بالزيادة في الأجور وبالمساواة في المواطنة الحقة، يتقدمهم مؤطرون نقابيون كلفوا بقيادة الجماهير العمالية من لدن قادتهم النقابيين المتمركزين في ابراجهم بالرباط والدار البيضاء ، قادة يعيشون عيشة الملوك والرؤساء ولا يشغلهم من حال طبقتهم العاملة التي يمثلونها الا لحظات قليلة من يوم فاتح ماي حيث يشاركون العمال لحظات ترديد شعارات هم أنفسهم من سهر على اعدادها بعناية حتى لا تكون خارجة عن اي سياق يهدد مصالحهم المشتركة مع الطبقة الحاكمة ،ماعدا ذلك فإن المسافة والهوة عميقة بينهم وبين الطبقة العاملة التي يمثلونها.
ففي مدينة تارودانت اعتادت النقابات (الكبيرة ) ان تختار لنفسها موقعا او ساحة محددة تقيم فيها كل سنة مهرجانها الخطابي ومنه تقوم باستعراضها العمالي لتطوف أهم شوارع المدينة ،فنقابة الاتحاد المغربي للشغل التي تعد اقدم تنظيم نقابي بالمغرب كانت تنظم مهرجانها بساحة درب اندلاس ،بينما يأتي في الترتيب الثاني من حيث الأقدمية نقابة الاتحاد العام الشغالين بالمغرب الموالية لحزب الاستقلال التي تنظم مهرجانها بساحة أسراك من الجهة الشرقية ، اما نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل اليسارية فقد اتخذت الزاوية الغربية من ساحة أسراݣ، بينما اختارت نقابة الفيدرالية الديمقراطية للشغل الموالية لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية و المنشقة عن الكونفدرالية الديمقراطية للشغل ساحة تامقلات كمكان لتنظيم تجمعاتها ، في حين اتخذت نقابة الاتحاد الوطني للشغل التابعة لحزب العدالة والتنمية ساحة فرق الأحباب كمكان لتنظيم تجمعها العمالي السنوي .
وهناك كذلك نقابات أخرى كثيرة لكن تأثيرها محدود في الساحة العمالية بالاقليم ،كانت كثيرا ما تنظم لقاءاتها بالمناسبة في بعض المقرات .
ما لفت انتباهي هذه السنة هو الراحة التي أصبح عليها رجال الشرطة التي كانوا يحرمون منها طيلة هذا اليوم وعلى مدى عقود ونيف خلت ، فقد كانوا يتخدون امكنتهم بنقط معينة بالشوارع الرئيسية للمدينة منذ الصباح الباكر بالسهر على اغلاق كل الممرات المؤدية للساحات التي ستشهد التجمعات الخطابية للنقابات العمالية ، بل وكانت الشرطة تشرع منذ مساء الليلة ماقبل فاتح ماي في اخلاء تلك الساحات من السيارات ، هذه السنة كان الحال مختلفا ،اذ لم يلاحظ الا سيارة واحدة للشرطة مركونة تحت أشجار ساحة أسراك الخضراء الوارفة الظلال وعلى الساعة الثانية عشر ونصف التحقت بها أخرى ، كلتا السيارتين رست امام مكتب صغير للشرطة بساحة أسراك .
ساحة اسراݣ التاريخية ومعها كل ساحات المدينة وشوارعها قد خلت من أي مظهر من مظاهر الاحتفال لفاتح ماي العمالي العالمي، فحتى مقاهي أسراك التي اعتادت في مثل هذا اليوم أن تكون مملوءة عن آخرها بأنصار التنظيمات النقابية وبعض رجال الأمن السريين والعلنيين لمتابعة المهرجانات الخطابية للنقابات قد بدت شبه فارغة ؛فهل ياترى أصبحنا نعيش حقبة أفول نجم النقابات ؟(انها نهاية التنظيم النقابي بالمغرب )؛ هكذا كتبت بعض الجرائد الوطنية المغربية القريبة من السلطة في أحد أعمدتها ، ومنذ سنوات كتب العديد من المحللين السياسيين المغاربة عن ” نهاية الأحزاب ” ،شيء ما يتبلور في الخفاء ولا ندري أهو نتاج تراكم أخطاء سياسية ونضالية للفاعلين السياسيين والنقابيين أم بفعل تخطيط مسبق لمن بيدهم خيوط اللعبة برمتها ؛ الكل اصبح يتحدث عن نهاية الأحزاب ونهاية النقابات ،وكأن هذا الكل قد أصبح متفقا على تسريع عملية وفاة هذه التنظيمات السياسية والنقابية التي كان لها في الماضي شأن هام في تأطير المجتمع وفي اشعال الحماس الوطني الجماهيري ضد الاستعمار الفرنسي و بعد ذلك في قيادة نفس الجماهير وبنفس الحماس الوطني في ترسيخ كثير من التوابث الوطنية واخراج تعديلات دستورية قبل اوانها من جبة المخزن ،وقد قدم لأجل ذلك الآلاف من مناضليها نصيب وافر من التضحيات بالنفس والمال .
احدى سيارات الشرطة التي كانت قابعة في هدوء غير معهود بساحة أسراݣ غادرت المكان على الساعة الواحدة ،سرعان ما تبعتها السيارة الثانية ،ليتأكد للجميع ان لحظة الاحتفال المعهودة بفاتح ماي قد أوشكت على الختام.
ساحة اسراݣ ومعها كل ساحات المدينة وشوارعها التي كانت تغص بالجماهير العمالية المرددة للشعارات( المناوئة للحكومة) ولسياساتها الغير الاجتماعية والمطالبة بالزيادة في الأجور والتغطية الصحية ،قد بدت فارغة الا من عربات الباعة الجائلين والمحلات التجارية والمقاهي الذين احتلوا الملك العام دون رقيب ولا حسيب ، وگأن مؤامرة ما قد دبرت لهذه المدينة التي كانت يوما عاصمة سياسية كي تبقى في سباتها وتخلفها عن ركب باقي المدن الأخرى التي تجاوزتها لسنوات.
وبعيدا عن لغة الخشب التي طبعت الخطاب الرسمي حول الحوار الاجتماعي ومخرجاته والذي لايجد له اي انعكاس على القدرة الشرائية للطبقة العاملة وعموم الفئات الاجتماعية التي تعاني من الفقر والهشاشة ،تؤكد الأيام والسنوات المتتالية أن الفاعل النقابي ومعه الفاعل السياسي الحزبي على الخصوص قد فقدا تأثيرهما على الطبقة العاملة وعلى عموم الفئات الاجتماعية الأخرى التي كانت تؤثت هذه المشاهد النضالية بحضورها وتواجدها الوازن تلبية لنداء ممثليها في هذه المؤسسات الحزبية او النقابية ،ليبقى السؤال المطروح بكل براءة ،لماذا فقدت الأحزاب والنقابات المغربية تأثيرها على الشارع وعلى الجماهير ؟ ولمصلحة من هذه الهوة التي تتسع سنة عن سنة بين المؤسسات النقابية والحزبية وجماهير الشعب الكادح ؟.
واذا كان المستقبل بيد الله وحده ،فإن الشيء الوحيد الذي لم يعد يختلف عليه اثنان هو أن الفاعل السياسي الحزبي والنقابي اذا لم يقم بمراجعة نضالية وفكرية ومذهبية وتقديم تنازلات لصالح الجماهير لإعادة رمزيته التي أضاعها في اللهاث وراء المصالح الشخصية اللحظية ،فإنه بالمطلق سيفقد ماتبقى له من احترام وسط من يدعي تمثيلهم عاجلا غير آجل.
* أحمد الحدري
تارودانت -فاتح ماي 2023