((لا تناقش السفهاء فيستدرجونك إلى مستواهم، ثم يغلبونك بخبرتهم في النقاش السفيه )) مارك توين
كثر اللغو هذه الأيام عن تعديل دستوري قد يهم الفصل 47 و غيره، والغريب
في الأمر أن البعض ممن يناقشون هذا التعديل، جاهلون بالدستور وبدلالاته،
فالقانون الدستوري أصبح علما بذاته، يحتاج إلى كثير من التروي، كما يحتاج
إلى الكثير من القانون، ولا شيء من الشطط السياسي، فكيف يعقل أن ينادى بعد
سبع سنوات فقط من عمر الدستور الجديد بتعديل الفصل 47 وكأن الدستور المغربي
على شاكلة الأكلات السريعة؟ وكيف ينسب البعض الآخر تعديل هذا الفصل إلى
حزب سياسي لم تجهر مؤسساته التي يعبر من خلالها عن مواقفه الرسمية بمطلب
مثل هذا؟ وهل من المسؤولية أن يعتقد آخرون أن الدستور وضع على مقاسهم، وأن
أي مساس به هم المقصودون بذلك؟
أعتقد أن النقاش الدستوري بشكله هذا قد نزل إلى درك أسفل، وأصبح يوحي
بأن نقاشنا الدستوري قد وصل الحضيض، في حين أن الدستور هو ذلك الفن، و تلك
الآلية التي من خلالها يتم تنظيم الحقوق والحريات والمؤسسات، وبالتالي
فطبيعة شكليات وضع الدستور ومضمون موضوعات نصوصه، يجعلنا نتعامل معه بكثير
من الحكمة والتريث، خاصة وأن فصوله لا تأخذ شكلا معينا، أو فهما محدودا، أو
حتى تصورا مبتسرا، بل هي نصوص تتفاعل مع الواقع، تصطدم به تارة، وتحاول
تنظيمه تارة أخرى، تحمل في طياتها جزاءات أدبية، وأخرى قانونية وحتى
مؤسساتية، لدرجة أن من الدستوريين من وصف الفصول الدستورية بتلك التوجيهات
السياسية ذات القيمة الأدبية، ربما لغياب عنصر الجزاء بشكله المباشر.
فالزمن السياسي له دلالته في الممارسة السياسية، كما له دور رئيسي في
توضيح كنه فصول الدستور، أما الأزمات السياسية فهي اللحظة التي يكون فيها
الحوار مطلبا ومسؤولية من أجل الحفاظ على الدولة وتقوية بناءها، ولا يعقل
أن نغير الفصول الدستورية بعد كل أزمة قانونية أو سياسية، لكون السياسة في
آخر المطاف هي مجموعة من الأزمات التي تحتاج إلى حلول تستعمل فيها القدرات
الذهنية كما النصوص الدستورية، خاصة وأن السياسي لا تكون غايته هي ممارسة
السلطة في حذ ذاتها، بل استقرار مؤسسات الدولة، وهذه الأخيرة لا تحتاج إلى
تعديل قوانين كل يوم، ولكن في حاجة إلى سلطة دائمة في العمل، لتضمن
استمرارية الدولة.
وعليه، أعتقد أن الذين يدعون إلى تغيير الدستور، إما لأن نظرهم قصير لا
يتجاوز حدود أقدامهم، يسعون لتحقيق مصالح ظرفية، أو حتى البحث عن حل لأزمة
ذاتية، وأما الآخرون الذين يعتقدون أن أي تغيير للدستور هم المقصودون به،
فيبدو أن غرورهم أنساهم أن الدستور ليس هو ظهر الحمار الذي يوصل إلى
الحكومة دائما، فالدوام لله حتى في السياسة، وللديمقراطية لحظات رفعة، كما
لها محطات انهزام.
ولأن الدستور ليس مزحة أو رغبات نفسية، أو حتى مكسب ذاتي بقدر ما هو
مكسب جماعي، فإن الفصل 47 الذي يثير لعاب البعض من أجل السفسطة، يجد تفسيره
ضمن هندسة دستورية عامة يفسر بها وتفسر به، لذلك أعتقد أنه على الجميع أن
يكف لسانه ومواقفه عن الدستور، وأن نترك للحركية السياسية شرعيتها من أجل
تفسير الدستور وتطويره، فالدستور قضية ملك وشعب ودولة، وليس قضية بعض جالسي
المقاهي الذين يستهلكون يومهم في محاولة إقناع أنفسهم بأنهم وحدهم من
يملكون الحقيقة، وهم لا يملكون سوى خيوط دخان سجائرهم.
لذلك لا نرى أية ضرورة أو حاجة لتعديل الدستور في الوقت الحالي، بل
سيكون المساس به خطئا و تراجعا فضيعا عن الاستحقاقات والمكاسب التي حصل
عليها المغاربة في توافق تام مع الملكية، وهذا التوافق هو أساس بناء هذه
الأمة، فدعوكم من هذه الدعوات الغير المنطقية، وتعالوا نفكر جميعا في بناء
الديمقراطية من خلال تفسير الدستور نحو المستقبل، ثم نحو ديمقراطية أفضل،
وأخيرا نحو القبول بالآخر في معارضته، أو في دعمه، فالسلطة وكيفما كان
نوعها، والحكومات كيفما كانت طبيعتها، لا قيمة ولا شرعية لها إذا كان علينا
أن نعدل لها الدستور حتى يكون على مقاسها، وأخيرا أقول لأولئك الذين
يصنعون الكثير من الضجيج: أبعدوا غبائكم عن الدستور، فهو أرقى من طريقة
تفكيركم.