بقلم الدكتور سدي علي ماءالعينين ،ابريل ،اكادير،2023.
مقال :(41).
رمضان 12/30
يقولون عن شخص عاصر عهدين او فترتين بأنه مخضرم ، و في حالة المغرب ،فبعض من رجالات البلاد عاصروا ثلاثة ملوك من محمد بن يوسف الى محمد بن الحسن ،وبينهما الحسن بن محمد ،
هذه الخاصية في رجالات المغرب تعطي الانطباع لعشاق التغيير من أجل التغيير أن لا شيئ يتغير مادام محيط الملك في مختلف المجالات يتم بنفس الوجوه ،
لكن العارفين بخصال مخزن المغرب يدركون أن إستمرارية الحكم لا تكون بتنصيب ملك محل ملك ،ولكن تكمن في استمرار ركائز الحكم في القوانين و الأشخاص و المؤسسات.
لن تجد في المغرب ملكا يقود انقلابا على محيط من سبقه الذي ليس سوى والده ، و الحالات الخاصة التي تقع تكون قيصرية تمليها ملامح التغيير كما حدث مع ادريس البصري ،
ومخطئ من يعتقد ان تواري وجوه عن المشهد السياسي معناه انهم وضعوا على الرف ، فالدولة المرعية لا تتخلى على رعاياها ممن قدموا لها خدمات يوم كانت بهم حاجة لذلك .
فهناك اعراف مولوية لا تجد حرجا في الإستشارة والاستئناس بالرأي كلما تعلق الأمر بما يستوجب ذلك .
فبعد مسار من المسؤوليات يمكن تنحية الشخص عن المؤسسات ،لكنه يبقى في دائرة الملك مستشارا غير منصب في منصب ،ولكنه حاضر للمشورة و الاستشارة وإبداء الرأي ،
وكلما وجدت أحدهم موضوعا في رف من رفوف هذا الوطن الا وادركت انه لا يصلح للاستشارة كما كان في زمنه يصلح للإدارة .
في الأيام القليلة الماضية تنمر المتنمرون على وفاة رجل استثنائي في نظام الحكم المغربي ، رجل تتكلم عنه سيرته التي لا يعرف عنها هذا الجيل سوى انه برلماني مدى الحياة ،لكن أحدا لم يكلف نفسه عناء قراءة مساره و ما قدمه للبلاد والملكية والأسرة الإشتراكية و النقابة و العمل التشريعي و الواجهات الدولية ، إنه فقيد الوطن سي عبد الواحد الراضي .
وبالأمس وفي صمت ، و في غفلة عن المتنمرين ، رحل رجل استثنائي آخر ،بصم ببصمته تاريخ المغرب ، و العمل السياسي و بناء الإدارة المغربية . من الوجوه التي خدمت بلادها بنخوة و بحماسة . ربما واقع حال حزبه اليوم لا يسعفه كثيرا أن تكون وفاته حدثا بارزا ، إلا أن إسمه وحده يكفي أن يجعل من وفاته خسارة للوطن وللملكية ولليسار وللإدارة .
لكن المتنمرين من الجيل الجديد لا يرون في مسار الرجل الطويل غير واقعة تدخله في 2010 لمنع اعتقال ابنه الذي قيل آنذاك انه اعتدى على طبيب في الشارع العام و بالسلاح الابيض .
إنه أحد أعمدة العمل السياسي و قوى اليسار و حزب التقدم والاشتراكية المرحوم خالد الناصري الذي توفي أمس .
وفي نفس اليوم رحل عنا وجه ارتبط الناس بصوته يوم كانت الاذان ملتصقة بالمذياع تتعقب تفاصيل المباريات في ادغال افريقيا يوم لم يكن هناك بث تلفزي مباشر ، هو واحد ممن خدموا وطنهم بتلك الروح التي تتفاعل مع كل محطة بحس وطني وهواية سقلتها التجربة و نمتها المسؤولية ،
المنتسبون لدار البريهي يعرفون من هو محمد العزاوي ، بنفس القدر الذي يعرفون زوجته الإعلامية فاطمة التواتي اطال الله في عمرها واللذان كانا معا شاهدين على حكاية زواج اعلامي كان عنوان التألق والالتزام و التضحية .
إن خسارة المغرب و المغاربة ،و الملك و الملكية ،و الوطن و الوطنية تكمن عندما ترحل وجوه لها بصمتها وحضورها ،لا يغيبها قرار سياسي او اداري ،ولا تنحية او إعفاء ،ولا تهميش او إقصاء ،لكنه الموت الذي يعلن خاتمة الاعمال و ينهي مسار الرجال ،و يقبر مسارات طوال .
يمكن لهذا الجيل ان لا يرى في الوجوه التي ترحل سوى رموز لحقب مرت ،و ان استمرارها علامة على غياب التجديد و ضخ نفس جديد في الدولة و المجتمع .
لكن الحقيقة عكس ذلك ، فكلما فقدت شجرة عريقة الجذور كلما فقدت معها ثمارها وظلها و ووجودها ،
فالحقول المزهرة لا تزهر فقط بالأشجار الجديدة التي تحتاج الوقت لتنضج وتزهر وتنشر ظلها ، بل في كل حقل اجيال من النباتات منها التي تبدأ ومنها التي يلحقها اليبس .
يوما عن يوم ترحل عنا وجوه بصمت تاريخ بلادنا ،قد لا يعرفها هذا الجيل لأنه جيل لا يهتم كثيرا بصناع التاريخ اكثر من اهتمامه بصناع المحتوى ،
و لكن الدولة بطقوسها المرعية لا تنسى رجالاتها ،ولا تنسى من ساهموا في صناعة تاريخ بلادنا ، لذلك تجد الدولة تبادر بالتعزية و ترسل وفودها على رأس الجنائز الرسمية ،وتلتفت الى اسرة الفقيد او الفقيدة كلما دعت الضرورة لذلك ،
وهنا مربط الفرس و الرسالة المتوخاة من هذا المقال ، وهي أن المغرب العريق بتاريخه و رجالاته و مساره لا يتخلى عن رعاياه ،ولا يفرط في تاريخهم الذي هو جزء من تاريخه ، و حين يحتفي بهم فهو يحتفي بمن صنعوه و كانوا منه وإليه .
المؤلم في المشهد ان الهامات تموت وترحل في صمت ،ولا نرى من المواليد من يسد الفراغ والخصاص ويكون خير خلف لخير سلف ،ويضمن الإستمرارية .!!!!
هناك خلل في المنظومة خلق فجوة بين الأجيال ،تجعل من رجل خدم وطنه من الراضي مجرد إقطاعي اراضي ،و تجعل من رجل خدم وطنه مثل الناصري مجرد شيوعي مات ،وتجعل من رجل خدمة وطنه مثل العزاوي مجرد صوت من زمن الماضي …
والمتنمرون هم جيل ينتج عصارة عصره لكنه لم يتربى على إحترام تاريخ من قبله ،
ومن لا ذاكرة له ،لا مستقبل له ،
وحين يدرك جيل التكنولوجيا عراقة النظام المغربي الذي يحكمه سيدرك ان هناك التكنولوجيا قد ترمى في سلة المهملات لمجرد عطب صغير ،لكن نظام الملكية ببلادنا لا وجود في قاموسه لسلة المهملات.
اما هذا الجيل فرسالتي له :
إحتفوا بمن سبقكم ،تجدون من يحتفي بكم ….
فهل تعتبرون ؟