أسرار بريس……….
خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، قضى الفرنسي فيليكس مورا ، عميل التوظيف متجولا في جنوب المغرب بحثا عن عمال في مناجم الفحم في الشمال ولورين التي كانت تعاني من نقص في العمالة. ولو أن كتب التاريخ نسيت اسم هذا الرجل، إلا أن ذكراه مازالت حية لدى عشرات الآلاف من العائلات جنوب المغرب
جنوب الأطلس الكبير، على مسار رملي تتوقف سيارة “سيتروين دي إس” مطلقة صفارة إنذار، ثم تغادر لتترك خلفها سحابة من الغبار. في ساحة بالقرية، وأحيانا بالقفار البعيدة عن الدوار، ينتظر مئات الشباب في طابور وهم نصف عراة بينما قمصانهم محمولة في اليد. لقد جاؤوا ملبين نداء القايد، في انتظار فيليكس مورا ، أو “موغا” كما يناديه الأمازيغ، ذلك الرجل الفرنسي الصغير المكتنز ذو البشرة السمراء والشعر الكالح السواد كما الغراب، رئيس القوى العاملة في مناجم الفحم في حوض الشمال وباس دو كاليه.
“موغا سيأتي يوم الاثنين…”، “موغا سيصل الخميس…” يتكرر المشهد نفسه لمدة عشرين سنة، منذ بداية سنوات الستينات إلى نهاية السبعينات. كل مرة يذاع الخبر، صباحا في السوق، ليحلق من وادي إلى وادي مع ريح شرقية آتية من الصحراء، ثم يتكفل كلام الناس بالباقي. من تالوين وأولوز وورزازات وتزنيت … تصل الجوقة إلى المنطقة قبل أن يصل هو بأسبوعين. “رجل المنجم، الذي يرسل الناس إلى فرنسا، إنه هنا!”.
قطع البعض مسافة مئة كيلومتر سيرا على الأقدام أو ممتطين ظهور الحمير، وآخرون تسلقوا التلال أو انتظروا على قارعة الطريق شاحنات البضائع ليصعدوا على متنها، وهنالك من وصلوا مستقلين طاكسي جماعي أو سيارة بيجو قديمة. عندما يبدأ عميل التوظيف بمناجم الفحم في عملية الافتحاص، ينتظر الرعاة والمزارعون الشباب عدة ساعات تحت أشعة الشمس، وهي طريقة لاختبار قدراتهم على التحمل. “لقد حدقت في عيون مليون مرشح مغربي على الأقل” هكذا قال على قناة “آنتين 2” سنة 1989، قبل نهاية بثها بست سنوات.
فيليكس مورا هو فرنسي أصيل ولد سنة 1926 بالقرب من مدينة ليل، التي تبعد بأزيد من ثلاثة آلاف كيلومتر عن هذه القرى النائية. وقد تم تكليفه بجلب رجال من جنوب المغرب إلى شمال فرنسا. في سنة 1963، أي سبع سنوات بعد نهاية الحماية، وقع البلدان على اتفاقية اليد العاملة من أجل تسهيل مجيء العمال المستعدين للنزول ألف متر تحت الأرض مقابل عقود مؤقتة. بمساعدة بعض الموظفين الفرنسيين والمسؤولين المغاربة، عرض مورا تذكرة الذهاب إلى فرنسا، أرض الأحلام حيث يكسب بها العمال عشرة أضعاف على الأقل من لقمة عيشهم.
في عام 1999 صدر كتاب “الذاكرة المسلوبة”، خص عمال المناجم المغاربة بالشمال الفرنسي، للباحثة المتخصصة في الديموغرافيا ماري سيغارا، التي قدرت عدد المغاربة الذين تم تجنيدهم بـ 78 ألف. ومن أكادير تحدث الجغرافي المتخصص في الهجرة محمد شارف عن عدد يتراوح ما بين 80 ألف و 120 ألف مجند، وهو مجموع الأيدي العاملة التي جرى تشغيلها في الأحواض المنجمية بالشمال خلال سنوات الستينات وبتلك الواقعة في اللورين خلال العقود التالية. أما فيليكس مورا فلا دليل على تداول اسمه بكتب التاريخ، حيث لا زال الغموض يلف هذا الرجل الذي ترفض أرملته فتح أرشيف العائلة أمام الباحثين، خشية من أن يشوه الزمن سمعة زوجها.
“كان مورا يتحدث إلى العيون، لقد كان يحدق إلينا مثل الذئب” لحسن تيغانيمين، عامل منجم متقاعد.
أمام سيارته “سيتروين دي إس”، تتجلى أسطورة الصناعة الفرنسية “غولو-بومبيدوليين France gaullo-pompidolienne”، متحدثا بلغة الشمال الفرنسي “بيغارد” ذو عنق الثور والبطن المستدير، لكن الرجل لا زال يبدو حسن المحيى وسلس الكلام. لكن عندما ينتظم طابور المرشحين الطويل، يلتزم الرجل الصمت، “لم تكن مقابلة لطرح الأسئلة، كان الهدف هو فحص العضلات” يوضح مورا في تقرير قناة “أنتين 2”. كل من مر عليه يتذكر نظراته الثاقبة من تحت حاجبيه، “لقد كان مورا يتحدث إلى العيون” هكذا وصفه لحسن تيغانيمين، المتقاعد من “رونو- فلنس Renault-Flins ” بعد ثمان سنوات من العمل بـ “الحفرة 13” بمنجم لينس، ثم يستطرد قائلا: “لقد حدق إلينا مثل الذئب”.
ترعرع أطفال لحسن تيغانيمين في بلدية فال فلوغي بإقليم مانتس لاجولي. أما لحسن إدالي، عامل منجمي آخر من أصل مغربي، فقد استقر مع زوجته في كلايس سو بوا ضمن إقليم الإيفيلين، بعد عشرين سنة قضاها في منجم ليبيركورت، بالقرب من أويجنيس في إقليم با دو كاليه. وبقي عبد الله سامات يعيش في آنيش، بالقرب من بلدية بيكوينكور، حيث عمل خمس سنوات في “حفرة بارويس”. أما إبراهيم كوثر وحمو شكوك ، فقد اختارا العيش في فورباش وموزيل منذ وصولهما عام 1976 … كان بإمكاننا اختيار ألف آخرين من جميع أنحاء فرنسا: كلهم يتذكرون هذا الرجل الذي قلب حياتهم رأساً على عقب.
لحسن تيغانيمين، 73 سنة، كان ضمن أوائل المتنافسين، ” ذات يناير أو فبراير من عام 1963 جاء مورا إلى تالوين، مدينة الزعفران التي تبعد 170 كلم عن أكادير. جميع الناس كان يتحدثون عنه فقط. أما الأمهات فكن قلقات عندما ذهب أبناءهن للقائه، أما الآباء فقد انقسمت آراؤهم: البعض اعتبر ذلك جيدا، عكس آخرين وجدوا أنه بالغ الخطورة” يتذكر لحسن بحماس: “سمح لي والدي بالذهاب لأنني كنت في الخامسة عشر من عمري، أما جسدي فكان نحيفا جدا؛ لهذا اعتقد أنني سوف أطرد من المنافسة، في حين منع أخي الأكبر من مصاحبتي لأنه كان يعمل في الحقول.”
(أقل من 30 سنة، وأكثر من 55 كلغ)
في يونيو من نفس العام ، تم إخطار عبد الله سامات بجولة مورا. “أبلغ من العمر 18 سنة، وأعمل في أكادير حيث أقوم بإصلاح الدراجات النارية والهوائية، وأثناء عودتي إلى قريتي، قال لي أخي: مورا في تازناخت” في هذه المدينة التي تبعد بـ120 كلم بدأت عملية توظيف عمال المناجم. وصل سامات ضمن الفوج الأخير: “كانت الحرارة مرتفعة إلى 40 درجة مئوية، ولم يكن هناك سوى 30 شخصا بساحة الانتظار. أمسك مورا بيدي، ومن الغريب أنه بدأ يفركها هكذا” يحاكي سامات هته العملية وهو يخدش راحة يده: “في الواقع كان يريد أن يرى هل لدي يدين جيدتين، يدي الفلاح”.
” تقدم..”، “استدر..” “افتح فمك..” من أجل منع المقدمين والقياد من محاباة أشخاص على حساب آخرين، تصر مناجم الفحم بنفسها على اختيار العمال. يأتي مورا وفريقه مع ميزان ومقياس للطول، مع معايير محددة: أقل من 30 عاما وأكثر من 55 كيلوغراما، وعدم الإصابة بأي داء جلدي، وخلو العيون من التراخوما. يقوم فيليكس مورا بنفسه بفحص عضلة الذراع، ويبحث عن الندوب أو التشوهات…
طوال حياته الفرنسية متنقلا بين المساكن التابعة لمناجم الفحم، بقي إبراهيم كوثر محتفظا بدفتر الملاحظات الصغير ذو الربط اللولبي، الذي كتب فيه عشر كلمات منذ وصوله إلى فورباش، وفق ثلاثة تواريخ. الأول كان فاتح نونبر 1974: وهو يوم لقائه بمورا في آيت أورير، ضواحي مراكش. ولا يزال بعض الناس يستخدمون مواسم الحصاد من أجل تحديد التواريخ. “كان ذلك بعد جنبي التمور في القرية” كما يتذكر السيد شاكوك لاحقا ذلك التاريخ الذي لا يتجاوز بداية نونبر 1975. وقبل خمسة عشر سنة كان لحسن إدالي يرعى خمسين معزة عندما أبلغه رجل بوصول مورا إلى تاليوين: “ركبت الحافلة دون إخبار والدي، كان عمري 17 سنة، وبت في المقهى. كان هناك 300 أو 400 شخص، على بعد كيلومتر واحد عن القرية. أمام مورا فكان جالسا خلف مكتب صغير، فوقه وضع ذلك الختم”.
(شفرة الألوان)
يحمل هذا الختم رمز مناجم الفحم… يميز ابراهيم كوثر بين لونين: “إذا كان الختم أخضر، يعني أنك سوف تهاجر إلى فرنسا.. عكس اللون الأحمر الذي يعني الرفض، والعودة من حيث أتيت”، يؤكد الرجل الذي لازال يحتفظ بدفتر الملاحظات، أن عددا قليلا من الأشخاص الذي وقع عليهم الاختيار نجوا من حفل الوشم مثل عبد الله سامات، “ألتقط لنا مورا صورة ونحن نحمل لوحة مرقمة: يعني هذا أنا سوف نرحل إلى فرنسا” وفق شهادة العامل المنجمي المتقاعد في با دو كاليه.
لا تخلو قصصهم من عواطف شخصية، إذ اعتاد هؤلاء الرعاة على وسم القطعان والماشية، “لقد زلزل هذا الختم التصورات” يؤكد بيير غالورو، أستاذ التاريخ في جامعة اللورين والمتخصص في الهجرة، وأضاف مؤلف كتاب “عمال المناجم الجزائريون والمغاربة، ذاكرة أخرى لفحم اللورين” قائلا: “ناهيك عن القوة الرمزية للألوان.. فالرمز الأخضر يرمز إلى الأمل والإسلام، في حين أن اللون الأحمر يرمز للخطر والعار والفشل…”
كثيرون من حاولوا بإصرار محاكاة الوشم بواسطة بطاطس مقسومة إلى نصفين، وآخرون حاولوا مسح العلامة الحمراء. يحكي الحاج مولاي، 83 سنة، وهو عميد المسجد الكبير ببلدية ترابس في إفلين: “أتذكر الأولاد عندما كانوا يفركون جلدهم بالرمال لساعات، وبعضهم حاول بواسطة ماء جافيل”. يضيف لحسن إدالي: “كان لدي أصدقاء مروا أمام مورا ثلاث أو أربع مرات على الأقل، بدون نتيجة” فلرجل عين تتذكر وتبصر كل شيء، ” كان يراقبهم بينما هم ينظفون صدورهم، ثم يفاجئهم قائلا: لا، ليس مرة أخرى” يتذكر ابراهيم كوثر.
(اختار الأكباش وترك الخراف)
لم تكن محاولة مسح البصمة من أجل الذهاب إلى فرنسا فقط، بل وربما لمحو العار. داخل اللاوعي، “كان الختم الأحمر يعد انتقاصا للرجولة” كما يوضح الباحث محمد شارف. كانت الأمهات والفتيات المخطوبات والزوجات يرددنها في أهازيج وأغاني أمازيغية، “جاء مورا إلى إسطبل القلعة، فاختار الأكباش وترك الخراف” وتقول أغنية أخرى،”مورا لم يختر سوى البراعم، وترك الإمام والضعفاء”، وبعد مرور نصف قرن من الزمان، مازالت مثل هذه الروايات متداولة كشكل من أشكال الافتخار.
مرة أخرى يضحك لحسن تيغانيمين؛ على الرغم من أن وزنه كان يعادل 54 كلغ، تمكن من اجتياز الاختبار بنجاح. “لقد ذهبت رفقة عمي، وهو رجل وسيم بعمر 45 سنة، ذو جسم سمين وقلب طاهر.لقد قال لي: أنت لست مضطرا لذلك، لن يتم اختيارك. مورا يريد الرجال، وأنت مجرد طفل، وتفقد الأغنام فوق ذلك”. لكنه حصل على الوشم الأخضر، “لقد كنت وحيد القرية من وقع عليه الاختيار، بعدما كان الجميع يهزؤون مني”
يجلس في صالون مغربي بشقته في فورباش، بينما يقدم حامو شاكوك توضيحا مثيرا للاهتمام: “مورا لم يأخذ الكبار، بل اختار المتوسطين” يؤكد عامل المنجم المتقاعد، مرتديا جلبابا مطرزا، وحتى يكون خطابه أكثر فهما يقف فجأة من مقعده أمام طاولة الشاي: ” لم يكن هناك داع لكي يكون حجمك أكبر، حتى تعمل في المناجم، حيث لا تتجاوز بعض أحجام الفحم مترا واحدا في الارتفاع”.
يتم هذا الاختيار الأوّلي أمام طاولة قابلة للطي موضوعة على الأرض. هناك، من الضروري ذكر الاسم العائلي والشخصي وتاريخ الميلاد. لكن في جنوب المغرب لم يكن استخدام الكنية شائعا. من أجل استصدار هذه الوثائق الإدارية الأولى، يضفي مورا وفريقه طابعا رسميا على عادات القرى. كان المسؤولون المحليون يتعاملون ببساطة مع ألقاب من قبيل: “ابن” أو “آيت” وتعني “أولاد”، لتصبح أسماء عائلية. مثلا إدالي، الاسم العائلي للحسن، يعني “رجال علي”، أما لحسن تيغانيمين فقد أخذ في ذلك اليوم اسم قريته بمنطقة سوس.
(تعديلات بسيطة في الحالة المدنية)
في العادة لا يوظف مورا إلا الشباب فوق سن 21. لكن تواريخ الميلاد يشوبها الغموض؛ ذلك أن الرضاع الذين ولدوا في دواوير سوس، يتم التصريح بهم في وقت متأخر، وقد يكون قياد القرى مهملين. يحكي عبد الله سامات: “بعد الختم، توجهت إلى رجل سألني عن عمري بالفرنسية، فأجبته: عمري حوالي 18 سنة. فأكد لي أنه يجب أن يكون عمري 22 سنة حتى أستطيع الذهاب” وكشف سامات قائلا: “قلت للرجل: اكتب 22 سنة إذن. فحسب بأصابعه وأضاف لي 5 سنوات، حيث كتب بوثائقي أنني مزداد عام 1939، لكن وفقا لوالدي فقد ولدت في 1944”.
“كان عمري 17 سنة، لكن مورا قال لي: سأمنحك عمر 25 سنة” يقول لحسن إدالي. ثم يضيف لحسن تيغانيمين: “على جواز سفري أشاروا إلى أنني ولدت في عام 1940، إذ كان عمري 23 سنة، بينما عمري الحقيقي لا يتعدى 15 سنة انذاك”. إنه عهد الغش، لكن هذه المرة تحت رعاية مورا. عبد الله، لحسن، إبراهيم، حمو، كل عمال المناجم المتقاعدين الذين التقيناهم هم أصغر سنا مما هو مدون على وثائق هوياتهم. كما يحتفل الجميع بأعياد ميلادهم في نفس اليوم، ذلك أن أغلبية العمال الذين تم تجنيدهم للعمل في المناجم “يفترض أنهم ولدوا: في 31 دجنبر أو فاتح يناير، شأنهم كشأن العديد من المهاجرين القادمين من إفريقيا. “بالنسبة لتاريخ ميلادي، فهو مزور بالكامل” يلخص لحسن الحكاية بينما هو يضحك.
الخطوة الأخيرة بعد المغادرة، هي اجتياز فحصين طبيين. لم يكن هنالك شك في أنا مورا يجد نفسه يمناجم الفحم رفقة رجال “غير صالحين”. كان أحيانا يحضر الفحص الأول في حي المجازر بأكادير، قبل الفحص الكبير في مستشفى مراكش أو الدار البيضاء. يتم قياس حجم الصدر بواسطة شريط، وفحص حالة اللثة “لقد قاموا بحساب عدد الأسنان” وفحصوا السمع “لقد كانوا يهمسون في آذاننا حتى يتأكدوا من أننا نسمع جيدا” يؤكد السيد سامات وقد خفض صوته: “لقد تحسسوا خصيتنا”. أما المخرجة ماريد بونارد فقد كشفت في فيلمها الوثائقي “أصحاب الحق Les Ayants Droit” أن الأرشيف الدبلوماسي لبلدية لا كورنوف يتضمن في وثيقة تعود إلى عام 1959 أن معايير التوظيف المتعلقة بالجسم البشري من أجل اختيار العمال المغاربة تم تحديدها استنادا على مؤشر Pignet الذي يشمل الوزن والطول ومحيط الصدر.
حددت مناجم الفحم القدرة البصرية في 5 على 10. لكن كيف يمكن معرفة درجة البصر لدى المتنافسين الذين لا يعرفون القراءة؟ في فورباش على طاولة المقهى، يأخذ إبراهيم قلما وورقة ليسرح كيف تم ذلك: “كانوا يظهرون الأشكال وكان عليك أن ترسم الشكل المربع هل هو مفتوح إلى اليسار أو اليمين أو الأعلى الأسفل. يلي ذلك “فحص بالأشعة السينية للرئتين، ثم تحليل الدم” يتذكر لحسن تيغانيمين جميع تفاصيل المشهد: “لقد كانت المرة الأولى التي رأيت فيها دمي، غشي علي آنذاك، بعدها ربت مورا على كتفي وقال لي: “ما تخافش، ماتخافش” باللهجة المغربية الدارجة.
لماذا إذن فيليكس مورا، المولود في كروا-واسكال عام 1926، من والد عمل موظفا متواضعا بصحيفة لا فوا دو نورد، يتقن اللغة العربية المغربية وثلث لهجات أمازيغية خاصة بمنطقة سوس؟ أجاب نجله الأصغر مارك مورا المولود عام 1975 في أكادير في الوقت الذي كان يتنقل والداه بين البلدين: “لقد كان متقنا للغة العربية لهذا كلف والدي باستئجار العمال المغاربة من طرف مناجم الفحم”. بقي مارك مورا مخلصا لبا دو كاليه حيث يعيش، وينوه بالمجهود الفكري الضروري لتأريخ الفترة الممتدة ما بين السبعينات والستينات. أكد مارك أن “عمليات الاستئجار هذه، كانت تتم دائما بموافقة من السلطات المغربية والفرنسية، لهذا تحظى بشرعية وشفافية تامة”.
“كان من المفروض أن يعمل والدي في المطبعة، لكنه أحب المغامرة” مارك مورا، نجل فيليكس مورا
“كان من المفروض أن يعمل والدي في المطبعة، لكنه أحب المغامرة” كما يحكي نجله مارك، في سنة 1945 أكمل الشاب فيليكس ثلاث سنوات من الخدمة العسكرية مع الجيش القومي les goumiers (وحدات الدعم والإسناد المكونة من الأهالي في مستعمراته شمال أفريقيا)، هؤلاء الجنود المغاربة الذين قامت الحماية الفرنسية بتشكيلهم ضمن كتائب أطلق عليها “طابورس Tabors”. عمل الرجل بداية مع الإدارة العسكرية في ليل، ثم بأكادير انخرط في مدرسة لتشكيل “ضباط الشؤون الوطنية” من أجل الخدمة في البلاد الخاضعة للحماية، ودرس اللغة العربية وعلم الاجتماع الإسلامي، ليقرر البقاء في المغرب. حسب ابنه كان فيليكس مهووسا بقصة المارشال ليوطي، رجل أخر من الشمال، والشخصية الأسطورية التي وضعت أسس الاستعمار بالمغرب، وأول جنرال مقيم في البلاد الخاضعة للحماية قبل حرب 1914. “انه إنساني” كما قال عنه الرجل المكلف باستئجار العمال بمناجم الفحم.
يضيف مارك مورا: “حياة أبي كانت هي نفسها بيئة وديكور “فورت ساغان”، الفيلم الذي لعب بطولته جيرارد دبارديو، مستندا على الرواية التي كتبها لويس غارديل. ضمن صفوف كتيبة “طالورس” كانت مهمة مورا هي الإشراف على الجنود “دور الشرطي” على أقصى حدود الصحراء، في وادي درعة حيث تم رفع العلم الفرنسي. وفي عام 1988 صرح للجريدة الأسبوعية المحلية “أكغيكيلتيغ دي با دو كاليس”: “لقد قمت بكل شيء هناك؛ العدالة، والإدارة المدنية، وعمليات الولادة…” وحسب الجريدة، “خلال منتصف الأربعينات، كان يتصرف تحت سيادته أكثر من 150 رجلا و300 جمل و10 خيول و5 عاهرات”. ليشق فيما بعد مساره نحو الشركات المصنعة للفحم.
عُهد إليه بعمليات التوظيف
ذات يوم من سنة 1948 أو 1949، رأى ضابط الصف الشاب إشعارا مر على مكتبه من الإقامة العامة في المغرب، وجاء فيه أن “شركة كاربوناج دو فرانس تبحث عن عمال مغاربة، وكان من المقرر أن يُعهد بهذا التجنيد إلى مسؤول الشؤون المحلية، يكلف بتشغيل اليد العاملة” يقول مورا للجريدة المحلية إنه تقم بطلب إلى الشركة التي قبلت ترشيحه، “وجدت نفسي في الشمال و با دو كاليه. كنت لا أزال ضمن الجيش، لكن تم استضافتي كرئيس لعمال مناجم الفحم، في وقت مبكر من عام 1950”.
قبل خمس سنوات من ذاك الوقت، جرى تأميم مناجم الفحم في حوض الشمال و با دو كالي، ولا تزال هذه المناجم تنتج أكثر من نصف الفحم الفرنسي، على الرغم الإنتاج الذي بدأ في الانخفاض، لا تزال المناجم تشغل ما يقرب 150 ألف عامل. وهي تعاني من نقص في العمال فضلا عن ظروف العمل الشاق والمحفوف بالمخاطر، والكوارث المتوالية التي حدثت في المناجم، لا تزال عالقة في الأذهان. ولم يعد أبناء عمال المناجم يرغبون في استخراج الفحم، وآباؤهم الذين يعانون في الغالب من التلف الرئوي، لا يشجعونهم على هذه الوظيفة. بالتالي ففليكس مورا مسؤول عن استئجار العمال من مكان آخر.
يوضح المؤرخ بيير غالورو ، إنه “وريث تقليد طويل لوكلاء التوظيف. ففي عام 1912، عهدت مصانع ويندل للصلب في مروت وموزيل بالعمالة الاجنبية إلى الجنرال كوتورييه”(..) سيصبح الرقيب مورا وكيل التوظيف الأكثر شهرة خلال ثورة الاقتصادية المعروفة باسم “الثلاثون المجيدة”. يؤكد السيد إدالي:” عندما سئلنا: كيف جئنا إلى فرنسا؟ جميعنا نجيب: موغا هو الذي أتى بنا”.
جوازات سفر في أكياس شاملة
في البداية، أرسلت مناجم الفحم هذا الرقيب الشاب من أجل تجربة حظه في الجزائر، لكن بدون جدوى. إذ يعود تاريخ مهمته الأولى في المغرب إلى عام 1956. بدأ بالتردد على مقابلة المغاربة الذين يعيشون في الشمال الفرنسي، من أجل الحصول على بيانات الاتصال. بلغة بيكارد صرح مورا لجريدة لوموند عام 1994: “لقد جمعت ألفي اسم، وأتيت لأطرق جميع الأبواب”. يقوم مورا بالبحث في أقاليم أكادير أو كلميم أو ورزازات، حيث كان الجيش القومي موزعا في وقت سابق. وكان سكان هؤلاء المناطق الفقيرة المفروشة بالصخور، مناسبين تماما للعمل في مناجم الفحم: “قيل أن الأمازيغ من سوس عمال طيعون” تؤكد طالبة الدكتوراه في علم الاجتماع مريم تيغانيمين، 32 سنة، وهي إحدى بنات لحسن.
كان مورا يعرف جميع رؤساء الجماعات والقياد. لقد تعلم عادات البلد، ويقدم الهدايا متى دعت الضرورة. تتابع مريم تيغانيمين، وهي باحثة متدربة بمختبر علم الاجتماع الاقتصادي CNAM-CNRS: “كان مكان التوظيف مرتبطا أيضا بولاء كل منطقة للنظام الملكي المغربي، والحسابات السياسية.. فقد كان رحيل الشباب نحو فرنسا بمثابة “مكافأة” في بعض الأحيان، وأحيانا أخرى كان وسيلة للتخلص من المتظاهرين المحتملين، كما حدث في وقت لاحق بمنطقة الريف”.
يتمتع وكيل التوظيف بالسلطة التقديرية لإصدار جوازات السفر الضرورية، أما السلطات المغربية فكانت توفرها له في أكياس شاملة. ويصادق مكتب الهجرة الوطني على عقود عمل لمدة اثني عشر أو ثمانية عشر شهرا قابلة للتجديد، فيما تتولى السفارة الفرنسية بالرباط إصدار تأشيرات الدخول. يتذكر السيد ساماتي ذلك اليوم حين غادر البلد نحو فرنسا، وكيف صادر رجال مناجم الفحم جوازات سفر المرشحين: “جُمعت وحُزمت بشريط مطاطي، واحتُفظ بها في صندوق كارتون صغير، الذي مر عبر الجمارك بدون عوائق”. حدث ذلك أيضا مع لحسن تيغانيمين ولحسن إدالي، اللذان غادرا المغرب عام 1963 على متن رحلة بحرية لشركة باكيت. تخلف السفينة وراءها ذلك الأثر الأبيض على سطح البحر، سرعان ما يختفي. ماذا كان اسمها؟ سفينة ليوطي.
(المصدر جريدة لوموند le monde الفرنسية)
عن صفحة
histoire d’ifrane anti atlas