رأيسلايد

رجل السياسة بين أن يكون أخلاقيا أو فاسدا


اسراربريس ذ : عبد الفتاح الحفوف

لم يعد مجال السياسة مجال الأصل، المجال الذي كانت من أجله وجدت السياسة. إن الأصل كان مقرونا بالأخلاق، فكان رجل السياسة رجل أخلاقي قبل كل شيء – يتمتع بعقلانية ممارسته للمجال السياسي – وهذا التوجه أكاد أقول أنه غائب لعدة اعتبارات: الأول يتمثل في طغيان الواقع لعقلية دينية حتى أصبح المظهر هو الذي يحكم لا العقل، والثاني ضعف المستوى التعليمي لرجال السياسة. والاعتبار الثالث وهو الأهم والذي يتجلى في غياب المجال الأخلاقي في الممارسة السياسية ( ولا يجب أن ننظر الى مفهوم الأخلاق هنا في علاقته بالسياسة كما نفهمها اليوم. بل فهمها باعتبارها واجب على السياسي كما يصرح كانط .
إن غايتنا واحدة وهي فهم السياسة كما هي لا كما يجب أن تكون ، خاصة أن ما يشهده الوقع الاجتماعي من غيرة على التغير ومسايرة العمل السياسي في كليته قد يدفع من يمارسها الثمن غاليا .وهذا ليس تحذيرا ، بل دعوة الى فهمنا للسياسة أولا وللواقع ثانيا خاصة وأن هذا الأخير يتغير باستمرار وهذا يجعلنا نعمل على امتلاك مقاربة جديدة وبر ادغم واضح .من هنا نرى أن من واجبنا أن نبين حقيقة السياسة والأخلاق، حتى يتبين لنا تلك العلاقة القائمة بينهما. فهذا الموضوع خاصة يعتبر من المواضيع القديمة في نفس الوقت، والذي جعل منه موضوعا هو صعود تيارات وأحزاب ذات مرجعية دينية الى السلطة والحكم في بعض البلدان- المغرب نموذجا- وهذه الأحزاب والتيارات تعتمد بشكل كبير جدا على خطاب سياسي ذات غلاف ديني أخلاقي سميك يعمل على اختراق وجدان الجماهير ويسلب إرادتها،فبدون عقلنة سياسية سيقع لك كما قال فيهم المفكر الإيطالي ماكيافيلي (إن السياسي يستطيع الخداع والتمويه، وهو كذلك، لأن الناس بسطاء، وهم على استعداد لقبول ضرورات الحاضر. ومن يمارس الخداع سيجد دائما بين الناس من يقبل أن ينخدع بسهولة ) في الوقت الذي يجب أن يكون فيه الخطاب السياسي خطابا عقلانيا موجها الى العقل وليس الى القلب والوجدان، هذا ويتم في الوقت الذي تحتاج فيه الجماهير الشعبية الى خطوات عملية لتخرجهم من تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تعصف بجيوبهم وتهدد استقرارهم . فما حقيقة السياسة ؟ وما علاقتها بالأخلاق؟
إذا تأملنا / تتبعنا ما وقع ما يجري في المشهد السياسي من أحداث ووقائع نجد أن جل الأطراف المتصارعة تعمل على إنتاج خطابات متنوعة، ومن خلال هذه الخطابات نلاحظهم يكررون باستمرار بوعي منهم أو بدون وعي؛مقولة أن السياسة قبل كل شيء أخلاق وأن السياسي أخلاقي قبل كل شيء، لكن السياسة في عمقها ما هي إلا تصارع الذوات من أجل تملك مجموعة من السلط باسم الجماهير وقد تكون لمصلحة الشعب كذلك، وقد أشار الكثير من المفكرين والسياسيين الى أن السياسة صراع قاتل من أجل السلطة والتوجيه والتملك، صراع تتحكم فيه قواعد الغلبة والقوة كما يتم اللجوء فيها الى الحيلة والخدعة ، ومحاولة الإقناع والتضليل لاستجلاب أكبر قدر من المتعاطفين والمؤيدين،كما يسعى كل طرف من الأطراف المتصارعة سياسيا الى كسب تعاطف الشعب عن طريق إظهار صدقه ونيته في خدمة المصلحة الجماعية والفردية، وغالبا ما يسوق السياسي بأنه ليس متحايلا ولا مضللا. ومن هذا المنطلق يأتي الترديد المستمر في العالم أجمع – وفي المجتمعات السائرة في طريق النمو على وجع التحديد – بأن السياسة قبل كل شيء أخلاق ، فكثيرا ما يتردد هذا الخطاب.
لكن في حقيقة الأمر إذا أردنا أن نفهم السياسة بما هي فن النجاح والفعالية يصعب فهمها دون الرجوع قليلا خطوتين الى الوراء وبالتحديد الى مفكر فذ وهو مؤسس علم السياسة الحديث ” ماكيافيلي صاحب كتاب الأمير ” ففي مرحلة معينة من تاريخ ايطاليا وتحت تأثير طموح توحيدها سيكشف هذا الرجل في كتابه الأمير عن العديد من الحقائق المتعلقة بالسياسة وممارستها، والتي ستجعل نظرة الناس الى السياسة تتغير وتنكشف حقيقتها لتصبح معه وبعده شيء آخر، إذ ستصبح مجالا للتخطيط والقدرات على اتخاذ القرارات الحكيمة في الزمان والمكان المناسبين، بهذه الأفكار الجديدة في السياسة ظلت جل كتابات الرجل ” ماكيافيلي ” فيما بعد توصف بأنه شيطان متلبس في صورة إنسان، وهذه الصورة ما زالت تلاحقه الى حد الآن. إن هذه الحقيقة إي الحقيقة السياسية عاينها من خلاله قربه الدائم من القرار السياسي وملاحظاته الدقيقة ومعاينته المستمرة. وبهذا سيعرف بين المفكرين والمتتبعين بأنه ” مُنزلُ” السياسة من عالم المثل والقيم والنظريات الى مجال التحركات العملية )البراكسيس).وهو على العكس في مجتمعاتنا العربية دخول الى مجال السياسة كالدخول والخروج من السوق تكون غايته الأولى الوصول الى ما يريد الوصل إليه. فهل هذا أصل السياسة ؟
إن الاتجاه الذي سلكه ماكيافيلي حتما سيتمخض عنه فهم جديد لعلاقة السياسة بالأخلاق ، وهو فهم مطابق لواقع الممارسة السياسة الى حد بعيد، ولا يجب أن نفهمه كتوجيهات أو نصائح تعبر عن النوايا والقناعات،فالسياسة حسب هذا الفهم هي مجال للصراع حول المكاسب والمصالح الفردية و والجماعية، أما الأخلاق فقط تستثمر لإخراج وتقديم الفعل السياسي وتزيينه وتلطيفه، كما قد تلجأ إليها الأطراف الضعيفة في الصراع السياسي والذي هو في العمق صراع بين قوى يتوقف فيها مصير الصراع على موازين القوى بين الأطراف المتصارعة. إن احترام النشاط السياسي اليومي للقواعد الأخلاقية ضروري وإن كان من أجل بقاء النظام على الأقل، وبلغة كانط للأخلاق الأولوية في السياسة وهي وسيلة عملها، إلا أن الإنسان الأخلاقي لا يحقق أخلاقياته الخاصة ما لم يتصرف سياسيا بقبوله لمنطق السياسة، لأن الاكتفاء بالأخلاق وحدها وإبعاد كل اعتبار سياسي يعد أمرا مستحيلا ومن الوهم تحقيقه.
لقد عرف التاریخ حالة ابتعاد مجموعة من الأشخاص عن كل وجود سیاسي، و أھم مثال ما عاشه ابيقور الذي یقول: “ینبغي أن نتحرر من سجن الأعمال السیاسة”.ھذا وقد تم التمییز بوضوح بین الأخلاق والسیاسة في القرن السابع عشر. ففي السابق كان دور الدولة ذا بعد أخلاقي، وبعدھا أصبح ذا طبیعة برغماتية نفعية، فكل ارتباط عمیق بین الفرد والجماعة من أجل التحسین الأخلاقي –الفردي والجماعي– تمت القطیعة معه كلیا. فمفكر القرن السابع عشر لم یعد یؤمن بأن العدل ھو أساس القانون الوضعي وشرعیته، بل في نظره لم توجد القوانین الموضوعة لحیاة الجماعة والبنیات السیاسیة إلا لأهداف نفعية خاصة، فالدولة أفرغت من كل محتوى أخلاقي منذ الوقت الذي لم نعد نطالبھا فیه بتحقیق القیمة الأخلاقیة .لكن السؤال الذي یطرح نفسه هو : ھل ینبغي القول أن الأهداف النهائية للسیاسة ھو نشر الأخلاق؟
إن الجواب ربما نكتشفه مع ھوبس الذي يرى أنه “لا توجد أخلاق حیث لا توجد سیاسة” لأن الوجود الأخلاقي عنده لا یبدأ إلا بالوجود السیاسي، والسلطة السیاسة التي تستطیع الإكراه بالقوة ھي القادرة على فرض طابع الإلزام خارج مفاهيم الخیر والشر، العدل والظلم، باختصار ھي التي تضع القانون المتعلق بالنظام السیاسي الذي تستمد منه الأخلاق. وھكذا فإن القانون ھو الذي ینتج الأخلاق ولیس العكس، والخیر والشر كقیم أخلاقیة یتم حكمھا بالعدل والظلم كقیم سیاسیة، هذه القیم التي لا تنبع إلا من الملك وتأخذ شرعیتھا من الطابع المطلق لسلطته، إذ ھو مصدر القانون والأخلاق، وعنده توجد وحدة السیاسة والأخلاق توافق القوة والعدل إلى جانب السلطة والحكمة. إلا أن ھوبس سیتوصل في النهاية إلى أن السیاسة وإن كانت فعالة مؤقتا إلا أنھا غیر كافیة لتأسیس الأخلاق لأنھا لا تستطیع أن تحقق لا الرضى ولا الإقناع ولا الموافقة ولا حتى التفاھم.
أما روسو فیؤكد أن “القانون لا ینظم الأخلاق فقط وإنما ھو الذي یخلقھا، لأنه إذا ضعف التشریع انهارت الأخلاق”، بمعنى أن السیاسة لا تقضي على الأخلاق وإنما ھي التي توجدھا نظرا لعدم قیام أي نشاط سیاسي أو اقتصادي بمعزل عن الأخلاق. وھو الشيء الذي یؤكده كانط عندما یقول إنه “ینبغي أن لا ننتظر من الأخلاق أن تعطینا الدستور السیاسي الجید وإنما على ھذا الأخیر أن یكوِّن الشعب تكوینا أخلاقیا”. “فدستور الدولة یقوم في نهاية المطاف على أخلاقیة الشعب وھذه الأخلاقیة بدورھا لا یمكن أن تجد جذورا حقیقیة لھا إلا في دستور جید” ولكن ما لم یستطع أن یھمله كانط ھو أن فكرة الأخلاق والإرادة لا یمكن زرعھا فینا بأمر خارجي.
وفي الختام تجدر الإشارة الى أن السیاسة كلما كانت عقلانیة دیمقراطیة تعددیة في تصوراتھا و ممارستها استطاعت أن تستجلب التصدیق لدعاویھا الأخلاقیة، وكلما كانت السیاسة استبدادیة وتسلطیة ومتطفلة اضطرت الى اللجوء الى المثل والقیم الأخلاقیة لاستعمالھا واستثمارھا دعما لسیطرتھا، فالسیاسة العقلانیة في نظرنا ھي أقل أنواع السیاسة احتیاجا للدعم والتبریر والتمویه الأخلاقي لأنھا في العمق أكثر ارتباطا بالقیم الأخلاقیة النبیلة كالخیر والاحترام والعدل والمساواة.


إ
 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى