رأيسلايد

«رائحة الأركان».. (باكروم) العبق السوسي

 

جرت
العادة أن يكتب الأدباء والمثقفون عن الأشخاص المرموقين، سياسيين
ورياضيين، علماء ومثقفين، غير أنه في هذه التجربة نجد أن عبداللطيف وهبي،
ابن بيئة سوس بعبق رائحة الأركان، اختار الكتابة على رموز بسيطة وسط الشعب
وبخاصة وسط جهة سوس، لها ذلك الحضور الجميل في حياة الناس مقابل غياب كلي
في الواجهة العامة التي تغري السياسيين، لما لهذه النماذج الإنسانية
البسيطة من قدرة كبيرة على اختزال قيم إنسانية تتجاوز محورية حب الذات.

لاتزال
الأسوار التاريخية تحتضن تارودانت بأبوابها الكبيرة التي، ربما، لم تعد
تكفي لتتنفس المدينة بسهولة، ما جعل مجلسها البلدي يعوضها بأبواب جديدة
مختلفة عمّا خلفه السلف قصد تسهيل عملية مرور المركبات، ويبدو أن هذه
الأخيرة قد انتصرت على التاريخ.

كذلك الضغط العمراني فجر بدوره
الأسوار التي ظلت تواجه تمدده وتوسعه بعدما اختلطت البنايات التراثية
القديمة بالجديدة، وكأن تارودانت بدأت تتخلى عن أصالتها تحت ضغط الإسمنت،
فلا غرابة أن تتقاطع الأزقة العريقة بالشوارع الجديدة.

إضافة إلى أن
الأراضي والساحات التي كانت شاسعة في السابق كالبساتين والحقول الخضراء
داخل الأسوار، والتي يُحكى أنها كانت تشكل درعا لمواجهة الحصار الذي كان
يُضرب على المدينة عبر التاريخ من طرف أعداء تختلف طبيعتهم ومواقفهم، فقد
تحولت هذه الحقول اليوم، إلى بنايات مشيدة. وأما البساتين، فقد طردت كلها
خارج أسوار المدينة، تارة على ضفة نهر، وتارة أخرى بجانب ساقية لا ينبض
ماؤها.

حينما تكون في عز الحملة الانتخابية، وبشكل طبيعي، وأنت تحاول
إقناع الناس بخطابك، تفكر في مستقبل مدينة تارودانت ومستقبل أبنائها، وبين
حين وآخر تحملك الذاكرة إلى شخصيات لاتزال حاضرة بقوة في تاريخ هذه
المدينة من علماء وقيادات وطنية، وشخصيات أخرى شعبية وبسيطة ملأت دنيا
تارودانت وشغلت ناسها، ومنهم شخص كان يقطع المدينة من شمالها إلى جنوبها
ماشيا، مبتسما يسلم على هذا التاجر وعلى ذاك الطفل، يحكي نكتة هنا وأخرى
هناك، كثير الضحك والشغب الجميل، يردد هنا بعضا من قصائد الملحون وينقل
هناك الكلام من هذا الشخص إلى ذاك على سبيل المزحة، فليس من شيمه النميمة،
فقط المزاح من أجل صنع المقالب الساخرة. كان (باكروم) شخصاً بسيطاً
وهادئاً. ثم منذ عرفته وهو شيخ بلغ من الكبر عتيا. وعندما كنت أمازحه كنت
أقول له: إن فتيات تارودانت يعشقنك لخفة ظلك!

يرد علي بافتخار ممازحا: “لو خيروهن بيني وبينكم، أبناء جيل اليوم، لاختاروني، فأنتم جيل هذه المرحلة لا فحولة لكم”!
حكى لي مرة أنه لما كان طفلا في أوائل القرن العشرين، وكان يقف بقرب باب
من أبواب أسوار تارودانت، (باب الخميس)، واستطرادا، فإن باب الخميس هذا
يكرهه الرودانيون لأنه الطريق الذي يؤدي مباشرة إلى المقبرة، فقد تسأل عن
شخص ويقول لك لقد نقلوه إلى (باب الخميس)، ويعني ذلك أنه انتقل إلى عفو ربه
ودفنوه بمقبرة (باب الخميس)، وقد أصبحت دلالته على أن الآخرة حتمية، فكل
الرودانيين سيمرون ذات يوم من تحته محمولين على آلة حدباء، أما نحن كأطفال
فكنا نعشق الذهاب إلى (باب الخميس) لأنه الطريق المؤدي إلى ملعب الكرة
لحضور مباراة اتحاد تارودانت. «فريق المدينة الذي يتحمس له الرودانيون،
لكنه ظل دائما في صفوف الهواة»، إذ يبدو أن الفرنسيين كانوا قد بنوه بجانب
ملاعب التنس التي لاتزال إلى يومنا هذا خارج أسوار باب الخميس، وفي الجانب
الأيمن للباب بالمحاذاة مع السور كانت توجد ساحة كبيرة نتردد عليها كثيرا
للعب الكرة قبل أن تتحول إلى سوق أسبوعي لبيع الخضروات وبعض الفواكه. وإذن-
عودا على بدء- يحكي (باكروم) أنه في باب الخميس هذا كان حاضرا قبل عقود
حين تجمهر مجموعة من الأشخاص والشباب والأطفال لرؤية أول سيارة تدخل مدينة
تارودانت من هذا الباب، وذلك خلال الأيام الأولى للاستعمار.

يقول
(باكروم) إنه حينما قام الفرنسي الذي أحضرها بتشغيل محركها فر الجميع
هاربين، كان (باكروم) يضحك وهو يقول إنهم كانوا يعتقدون بأن الجن يخرج
منها!
ما يعرفه القليلون عن (باكروم) أنه لم يسبق له مطلقا أن غادر
مدينة تارودانت، عاش طوال حياته داخل هذه المدينة ليسلم الروح فيها. فقد
كان يعرفه كل الناس ويعرف الناس كلهم، ظل عالمه محدوداً بين أسوار هذه
المدينة التاريخية العتيقة.
عندما أمازحه قائلا له: “يوجد العالم كله للناس وتوجد تارودانت لـ(باكروم)”.
يرد علي غير مبال: “وتكفيني”.
كان يشتغل حارسا ليليا في إحدى المؤسسات الخيرية، يتقاضى بعض الدريهمات
مقتنعا وقانعا نفسه بها، معتبرا أن هذه الوظيفة هي حياته، فبأجرته يكفل
أسرته رغم أن (باكروم) كان بدون ضمان اجتماعي وبدون أي تعاقد أو تقاعد،
وعليه أن يشتغل حتى الموت، فالتقاعد بالنسبة إليه هو الموت كما ظل يقول.
وحين أخبره أحد المسؤولين أنه سيستغنى عنه سأله (باكروم) عن السبب؟

أجابه المسؤول: لقد بلغت من الكبر عتيا وأصبحت متعبا وغير قادر على العمل.
ابتسم (باكروم) وأجاب المسؤول: “مادامت زوجتي لم تخبرني بأنني تعبت، فهذا يعني أنه مازالت لي القدرة على العمل”!
كان يحكيها بسخرية كبيرة. وعلى إثر تدخل بعض وجهاء المدينة لدى هذا
المسؤول، ظل (باكروم) في وظيفته التي تُختزل في مَهمَّة مفادها أن يصل إلى
مقر عمله في الساعة السادسة مساء، وفي الثامنة مساء يصلي العشاء ويقفل
الباب ويدخل حجرة صغيرة وينام. يستيقظ مع الفجر ليصلي ويفتح الباب، وفي
السابعة صباحا يغادر مقر عمله.

أجالس (باكروم) بين آذان العصر
والمغرب، نفترش الأرض بجانب الطريق، ليبدأ بإنشاد أغاني الملحون، أسأله عن
أسرة ما من أهل تارودانت، فيسرد لي تفاصيل أصلها وفصلها، ذلك أن ذاكرته
تحمل الكثير عن كل ما عايشه، غير أنه لم يسبق أن تحدث عن شخصٍ مّا بسوء، بل
ينهي كلامه دائما بالترحم عليه.

يصف لك (باكروم) شكل تارودانت في
العشرينيات من القرن الماضي وكيف تطورت، فهو لا يسألك مطلقا عن مدينة
أكادير أو البيضاء أو الرباط وغيرها، فهذه المدن لا تهمه، فقط مدينة
تارودانت. كان له مذياع صغير، «ترانزيستور»، يحمله في كل مكان. وكان
(باكروم) هو آخر مواطن اشترى جهاز التلفاز في تاروادانت، فقد ظل يتحدث عنه
باحتقار ويعتبره مضيعة للوقت.

وما إن يمازح بعض المارة بمقالب لغوية
خفيفة، حتى يهرول وهو رجل في التسعينيّات من عمره، ليمسكه أحد أصدقائه
ضحايا مقالبه من جلبابه فينحني (باكروم) طالبا العفو، واضعا رأسه بين يديه،
وسرعان ما يعانقه الممسك بتلابيبه ويصفح عنه. لقد كان شخصا محبوبا إلى
حدٍّ كبير، لا يطلب صدقة ولا يتودد لأحد، يبتسم بنوع من السكينة، يثرثر في
مواضيع متعددة وكأنه يستهلك الوقت..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى