حيدة بن ميس الصحراوي أصلا، المنابهي البرحيلي دارا ، التزنيتي إقبارا،
واسم “ميس” في اللغة أسلوب تصغير لاسم علم هو موسى، كان يعمل حيدة شيخا لدى
سلفه الباشا حمو المكناسي دفين مقبرة ” سيدي وسيدي ” ، كان الباشا حمو
يبعثه من حين لآخر إلى مراكش في الأمور المخزنية، وصادفت السعادة وجود حيدة
بمراكش يوم وفاة الباشا حمو سنة 1318هـ فترة حكم المولى عبد العزيز، فعينه
الوزير الصدر أحمد بن موسى الملقب “با احماد” مكانه، وقيل أن ظهير
الباشوية تم شراؤه وهو الأغلب وقتئذ استحقاقا أو محاباة. كان حيدة أكثر
جرأة وإخلاصا لسلطة الحماية ، بطرده الهيبة بن الشيخ ماء العينين من
تارودانت، عظم شأنه لدى الفرنسيين فاحترمه كل رؤساء زمانه بمن فيهم سيده
الباشا الكلاوي، تولى القيادة العامة لإخضاع ما وراء تزنيت عامي 1333هـ
و1335هـ ، وفي هذه السنة ثارت المنابهة ضد أيت الشباني ففر من داره ”
بتمازط ” واحتمى بضريح سيدي عمرو أوهارون. ثـم انتقـل إلى ” أرزان ” وفي
تلك السنة الأخيرة توفي مولاي الحسن، وتولى مولاي عبد العزيز فكثرت الشكاوي
بجميع قواد سوس لكثرة ظلمهم للرعية، فأرسل أحمد بن موسى لجميع القواد
ليقابلوه بمراكش، وما إن وصلوا حتى سجنهم جميعا، وأرسل لجنة تبحث في أمر
الشكاوى، وما إن وصلت المنابهة حتى قابلها شخص يدعى أحمد بن مالك مصرحا أن
الناس يقبلون جميع من يرسله السلطان وليا حتى ولو كان أمة /خادم، ويقال أن
هذا هو السبب في قدوم الباشا حمو (من عبيد البخاري) الذي بقي معه حيدة شيخا
ردحا من الزمان، إلى أن توفي الأول وعين مكانه الثاني كما سبقت الإشارة.
ذهب حيدة سنة 1321هـ لتازة معاضدا لباشا مراكش الكلاوي ، قصد محاربة
الجيلالي الزرهوني الملقب ” بوحمارة”، ترك ولده أحمد/حماد نائبا عنه، فثارت
عليه الناس وتمردوا ونجى منهم بفتح خزائن والده وتفريق الكنوز والأموال
بسخاء، ولما رجع حيدة سجن جميع من أخذوا من ولده شيئا حتى أرجعوه، بقي حيدة
يسكن بأولاد برحيل وخليفته على تارودانت صهره ” أحمد بن بيروك بهباز”، لكن
ثار عليه أحمد بن علي “الكابا” أول من بدأ تشييد دار البارود فأخرجه من
تارودانت لينصب نفسه مكانه ، بقي حيدة على المنابهة إلى أن رجع إليها يوم
أخرج منها ” الهيبة ” سنة 1330هـ. قاوم الكلاويين والضرضوريين ووقف في
وجههم بعناد وصدهم، لما أرادوا أن يستولوا على بعض أيالته برأس الوادي/سوس
ناحية أولوز، وكان عضده الأيمن في هذه الحروب ابن أخته أحمد بن بوعزة ،
الذي أبان عن شجاعة كبيرة في القتال، بعد مدة يسيرة انقلبت العداوة الحربية
الى حلف لمحاربة الهيبة بعد أن كانوا من جيوشه بمراكش ، وانفصلوا عنه عقب
انهزامه في معركة سيدي بوعثمان ضد فيالق فرنسا ووقفوا ضده إلى النهاية .
تحصن الهيبة بتارودانت مدة سبعة 7 أشهر و17 يوما، لما فتك أنصاره بزعامة
قايد الرحى الناجم الأخصاصي بالكابا الذي نصب نفسه باشا تارودانت وتحصنوا
بالمدينة بعد احتلالها، لحق بهم حيدة وجنوده وحاصروهم، حتى تاريخ 17 جمادى
الثانية 1331 /24 ماي1913 تاريخ تسلل الهيبة ومغادرة تارودانت نحو بسيط
أسرسيف بهشتوكة ؛ بقي طيلة تلك المدة كل فريق على طرف يتحين الفرص ويترقب،
مرد ذلك سور تارودانت العظيم رغم كونه متهالك ومصارعه/أبوابه الحصينة. لم
يشف حيدة غليله من غريمه الهيبة، بل تابعه مرحلة مرحلة حتى ناحية “كردوس” ،
خصوصا بعدما فسح له المجال عقب رجوع الكلاوي من سوس الى مراكش في فاتح
محرم 1333هـ.
كاريزما شخصية حيدة يمتحها من كونه استطاع قبل كل شيء الحفاظ دائما على
قواه البدنية بالرغم من عمره المتقدم بشكل ملحوظ، لم تكن قط الشيخوخة عائقا
أمامه لقطع المسافات الطويلة باستمرار فوق ظهر بغلته – عوض الفرس/ أنثى
الحصان على عادة قواد و باشاوات زمانه-، فكان حيدة لا يبرح الأرض من منازلة
حربية الا ليستجمع قواته وقوامها ليعيد الكرّة ، حتى خبرته هده المعارك
قواعد القتال كالتمرس على الدهاء، والقدرة على المناورة بذكاء عند الضرورة
للإفلات برأسه. يقول بول شاتنيير في كتابه “في الأطلس الكبير المغربي/ فصل
بعثة الى سوس” الذي صدر سنة 1919 : “الباشا الهرم الذي حافظ على وجه قاس
عسكري وهو يجتاز حشود مرؤوسيه غدا مبتسما ، “مرحبا بكم” يقول لنا، لأنكم
داخل بيتكم في أملاك المخزن التي استرجعتها منذ عهد قريب من الهيبة، لقد
كافح طابور الباشا كل فصل الشتاء ضد أنصار الهيبة الكامنين في الأطلس
الصغير، حيث جرهم بجسارة الى الحرب الباشا حيدة ميس، الذي يكون في الغالب
على رأس جنده، طريقته في القيادة بسيطة للغاية، يركب بغلته ويخرج محروسا
بعبيده ومتبوعا بجنوده، وعندما يشعر بأن قوته غير كافية فإنه عادة ينكص على
أعقابه ويدخل بسرعة الى تارودانت؛ إن الهروب بالفعل ليس معيبا عند المغربي
الذي يفضل الهروب أمام قوات تفوقه، على أن يقاوم بدون جدوى. طابور العساكر
infanterie militaire من جند الباشا حيدة ميس كان يميزهم اللباس العسكري
بالألوان الزاهية : الجلباب الأحمر البرتقالي والسروال البنفسجي أو الأصفر
الأطرجي الذي تخرج منه سيقان نحيفة عارية بأرجل ذات نعال من الجلد الأصفر”.
أثناء استقباله من طرف الكولونيل دولاموط رئيس بعثة التهدئة الفرنسية
الى سوس سنة 1914mission de la pacification française ، اشتكى له حيدة ميس
من منافسة بعض قواد سوس له، بمجرد ما أذن له مبعوث فرنسا العسكري بأخذ
زمام الأمور تهلل وجه الشيخ، وبدأ يمر أمام أعينه وميض المعركة، وطلقات
النار، واستفاقت روح المحارب المندفع، واهتزت مغيرة تشكيل وجه الشيخ الهرم
الحيوي، لتكون بذلك أول غاراته التأديبية قصبة افريجة وصاحبها القايد ناصر
الإحياوي ” إنه خائن سوف أذبح خدامه الماكرين، وأحرق قصبته وكل أملاكه سوف
تصبح لي” القايد ناصر قتل في وقت لاحق سنة 1927، أي بعد عقد من الزمن على
مقتل غريمه الباشا حيدة ميس سنة 1917، وما ذلك الا صورة تاريخية من زمن
السيبة الذي كان يسري عليه قانون الغاب، القوي يسطو على الضعيف، بينما
الضعيف ليس بوسعه سوى المناورة للنجاة برأسه.
خاض حيدة بن ميس عدة حروب متتالية ضخمة تناقلتها الروايات الشفوية قبل
أن يدونها للتاريخ المختار السوسي في كتاب المعسول، أشهرها ضد قائد الرحى
الناجم الاخصاصي، الوحيد الذي بقي مناصرا للشيخ الهيبة بعدما انهزم بمراكش
وتخلى عنه جميع القواد والشيوخ والفقهاء وتراجع الى الجنوب، حيث مكنت
الحماية الفرنسية باشا سوس من العتاد العسكري المتطور لينوب عنها حربا أو
سلما، رغم ما عرف عن حيدة من قوة البطش والجبروت والدهاء وليس السلم، من
أجل هذه الخصائص التي جعلت من حيدة أسطورة حربية كاريزمية، وعدته فرنسا أن
يصبح كبير قواد سوس من أدناه الى أقصاه، ولما كان الهيبة متحصنا بتارودانت،
أوشك المبعوث المخزني المدعو بن يعيش ان يتوصل الى صلح مع الهيبة ، فدبر
حيدة بليل أمر تصفية الرسول، لأن من شأن الصلح الذي بات قاب قوسين أو ادني
أن يفسد عليه مكانته المرتقبة، ويفقده حظوته التي وعدته فرنسا إياها وهو
يتشوف إليها، ليس بينه وبينها سوى طول ذراع وقبضة يد؛ ليخرج الشيخ الهيبة
متسللا من تارودانت يوم 17 جمادى الثانية 1331هـ موافق 24 ماي 1913.
نظرا لتقليص القوات العسكرية بالمغرب بعدما دخلت فرنسا غمار الحرب
العالمية الاولى ، دفعها لتكليف القواد الذين اعلنوا ولائهم لها، لضبط
الأهالي بالجنوب ويحاربوا نيابة عنها القبائل التي أبت الاستسلام واعلان
الولاء للمخزن الجديدة بالمنطق الخلفية للحوز وسوس ، فأمدت القواد الكبار
بالعتاد المتطور من بنادق رصاص ومدافع هجوم، أما المؤن فتقع على عاتق
القبائل التي تشق عصى الطاعة، وكم قاسى على إثرها الناس الشدائد والمحن،
فكم من بيوت هدمت فوق رؤوس أصحابها !! وكم من نساء رملت !! وكم من صبيان
يتموا !! وكم من بيوت خربت فوق رؤوس أصحابها بسوس بدريعة مناصرتهم للشيخ
الهيبة وآل ماء العينين !!
اعتبارا للمجهودات العسكرية التي ابان عنها حيدة بن ميس طيلة عقد ونصف
العقد من الزمن بدون كلل، في مرحلة متقلبة محليا بالنسبة للمخزن الجديد
وحرجة بالنسبة له خارجيا فوق التراب الفرنسي ، قدرات ابان عنها حيدة ميس في
صراعه ومحاربته لأحمد الهيبة الذي اعتبر أكبر مقاوم رافض لسياسة التهدئة
بسوس، قررت سلطات فرنسا مكافأته بمدالية جوقة الشرفة médaille de la légion
d honneur ، الوسام الذي أحدثه الإمبراطور نابليون بونابرت، أول قائد
عسكري كولونيالي في تاريخ فرنسا . جرت مراسيم حفل التوشيح باكادير واشرف
عليها الكولونيل دولاموط ، القائد العسكري للحماية بمراكش وصاحب الحملة
العسكرية للجنوب 1914 التي رافقه فيها الكمندان طبيب الاسعاف الاهلي ارنست
بول شاتنيير – انظر المدونات السابقة- دفين مستشفى تارودانت.
أجبرت فرنسا على إثر دخولها غمار الحرب العالمية الاولى في مواجهة ألمانيا
النازية، فقامت بسحب عدد كبير من جنودها الذين استخدموا من قبل فيما سمي
حملة التهدئة de pacification la compagne، بالمقابل عوضتهم باللفيف
الأجنبي السنغالي الذي كان يسميه الرودانيون “عسكر ساليكان” أو “عسكر
لاليجو”، وسنت سياسة القواد الكبار ومنحتهم السلطة المطلقة واليد الطويلة
لقمع عصيان كل من أبى الإنصياع للوضع الجديد، واخضاع مناطق نفودهم سلما أو
حربا من أجل الدخول لبيت طاعة المخزن. هكذا أصبح الكلاوي باشا مراكش
والحوز، وحيدة بن ميس باشا تارودانت وسوس ، لكن أحمد الهيبة الدي لايزال
ينعم بالزعامة، بقي ينغص على حيدة أمره إزاء فرنسا، فتعقبه الأخير حتى
أصقاع الجنوب بجبال ولتيتة بتخوم تزنيت .
خرج حيدة كبير قواد سوس من تارودانت يوم السبت 27 صفر 1335 موافق 23 دسمبر
1916 في فيلق/حْركة متوسطة العدد بين راكب وراجل، مدججة بالعتاد الناري
العصري ومدفعين مقطورين للرجم، وسار كلما تقدم جنوبا ينضم اليه قواد وشيوخ
المناطق بمقاتليهم ، ليصل الحشر الى تزنيت بجيش غفير لم يسبق لسكان تزنيت
عهد برأيته ما أثار توجسهم خيفة، اضطر حيدة ليعسكر به خارج المدينة في فاتح
ربيع الأول 1335هـ موافق 26 دجنبر 1916 ، بعدها اجتمع بليوبولد جستنار –
القبطان الشلح – الذي عينه ليوطي في 24 اكتوبر 1916 من اكادير ضابط
الاستعلامات العامة بتزنيت ، ثم منح رتبة قبطان عسكري بعد توسيع دائرة
نفوده لتشمل منطقة ايت بعمران، تم الاتفاق بتزنيت بين جستنار وحيدة على
الخطة ، لكن في مقابلها بالجانب الآخر وضعت خطة حرب عصابات مضادة، وبما أن
أهل كل منطقة أدرى بشعابها المنحدرة وفجاجها الضيقة ومرتفعاتها المطلة، كان
مصرع حيدة بن ميس يوم الأحد 13 ربيع الأول 1335 موافق 7 يناير 1917 ، وفصل
راسه عن جسده ليطاف به في الأسواق، وأخيرا أوتي به الى معسكر الهيبة، وعلق
هناك على ما جرى به عرف الانتقام بعد الانهزام في الحروب الشرسة، الى أن
سرق إحدى الليالي وأوتي به الى تزنيت حيث سلم لابنه أحمد/حماد، الأخير دفنه
جوار الجثة بتزنيت،
معركة يوم الأربعاء 15محرم1331هجرية الموافق ل 26 دجنبر1912 بين جيش
حيدة و المجاهدين أنصار الهيبة طيلة يوم كامل قرب كدية سيدي بورجا.
معركة يوم السبت 8 ربيع الأول عام 1331 هجري الموافق 16فبراير1913م في
المكان المسمى فم الرحا خلف محطة الوقود شال بطريق بويفركان حاليا.
معركة يوم 04 ذي القعدة 1331هجرية الموافق 06اكتوبر1913م في تارودانت خارج
باب الغزو/ باب تارغونت.
أكثر من مصدر شفوي ذكر أن مصرع الباشا حيدة ميس لم يكن أمرا عاديا،
خصوصا وأنه من ناحية العدد يتوفر على فيالق /حْركات متنوعة من الخيالة
والمشاة وعبيد حراسة القرب، كل فرقة ومهمتها بلباسها الذي يميزها ، ومن
ناحية العدة، فهو يملك مدفعين ناريين نوع شنيدر عيار75 ملمتر، وبعدما بسطت
له اليد سلطة المخزن الجديد ، ودعمته بقوة عتاد ناري عصري متطور، والمعطى
الأخير كونه رجل خاض حروب قتالية مشهودة، سجلت في تاريخ المغرب المعاصر
كحرب تازة وحرب سيدي بوعثمان، كما قاد عددا من حْركات التأديب لصد أطماع
القواد المجاورين لمنطقة نفوده، ما أكسبه حنكة حربية ودهاء قتالي في فترة
حرجة من تاريخ سوس أصطلح عليها “زمن السيبة”، هذا ما جعل أمر مصرعه ينتهي
عند أحد المقربين جدا منه، وبالتالي يمكن الحديث عن عملية مدبرة اغتيل على
إثرها .
من جانب آخر رغم قساوة الشيخ وغلظته، كانت زوجته امرأة تسمى وزة بنت بيروك
بهباز، سيدة لا تفتأ ولا تتأفف من صنع المعروف والاحسان على أوسع نطاق كلما
غاب السيد، فقد تواتر التاريخ الشفوي كما سجل المدوّن منه، كونها امرأة
خيرة سخية كريمة رؤوفة بالخدم والإماء، الذين دأبوا على حمل ما تبعث به من
مؤن غذائية للزوايا والمساجد، والاعتناء بها تجهيزا وإصلاح متى تضررت سواء
بفعل الطبيعة كالأمطار أو نتيجة الاستعمال المألوف للفراش والكساء والماعون
من طرف الأفاقين المنقطعين لطلب للعلم، وإرسال الصدقات كل جمعة لزوايا
الفقراء الدراويش، وخصصت لبعض ذلك زكواة اعشار وفدانين وسجلته وقفا حبسيا
لذات الغرض، خطه وشهد به عدلين منتصبين للشهادة الشرعية.
كل زمن وتارودانت بألف خير