منذ أزيد من سنة وهذا الإشكال يزعجني كثيرا، علاقة الفلسفة بالتعليم – رغم الصراع التاريخي الذي كان قائما بين كانط و هيغل حول تعلم الفلسفة أو التفلسف- وبالتالي بالواقع، وهذا ما يطرح سؤال لماذا الفلسفة ؟ وما الجدوى من تدريسها داخل الحجرات الدراسية؟
إن هذه الإشكالات قد سبق طرحها من قبل العديد من المفكرين والمهتمين والبيداغوجيين . لكن لم أعتبرها يوما إشكالات بعيدة عن ذاتها، وإنما ما يزيد الأمر تعمقا هو عندما نربط هذه الإشكالات بالمحتوى الذي نُدَرِّسُ به.إنها مشكل وليست إشكالا عندما نحصرها بأوامر وقيم لا تتعدى نفسها. وهذا ما جعل مدرس الفلسفة خاصة يشتغل وراء قناع المؤسسة، وتبريراته لا تكون إلا خلف أسوار المؤسسة. فكيف إذا يحق لنا أن نسأل عن سؤال الجدوى منها؟ أو ليس الشيء في ذاته كما عبر عنه كانط لا نستطيع أن نعلن عنه ولا يستطيع أن يعلن عن ذاته؟ ألا يشبه هذا الطرح سؤال الفلسفة عامة في مجال تداولي يمنع من الحقيقة أن تكون، مادام وجودها تهديد للنظام السياسي التعليمي خاصة؟
إن الأمر يستدعي منا التفكير مرتين قبل التفكير في الحلول كرهان وكغاية أسمى. فالعمل على جعل الفلسفة كحل لأزمة التعليم هو عمل يبرز ذاته قبل فعل البدء. لهذا سيراهن مدرس الفلسفة على أمرين اثنين : أولا الإبقاء وراء القناع/ المؤسسة كوسيلة لتبرير تفكيره، بينما الرهان الثاني هو الفلسفة نفسها كحل لخروج المجتمع من أزمة اللاتفكير.
إن الفلسفة داخل أسوار المؤسسة التعليمية ليست فلسفة، بل إن صح التعبير تناقض بين ما هي (ماهية الفلسفة)وما تعلن عنه داخل الفصول الدراسة من تقييد وحصر للفكر التحرر و الإبداع من النمطية، إنها بلغة أخرى “بداية النهاية” للفكر وللحرية. فهي تصارع تارة من أجل البقاء، وتارة أخرى خوف من الخروج عن المألوف. فالتفكير والبحث عن الحلول داخل مجال جغرافي لا يحترم خصوصيات التفكير إذ سيجعل من هذا الأخير خروج عن طاعتها ـــ التفكير لا ينصاع لأحد إلا لذاته ــــ وهذه الصراعات ظهرت/ تجلت بشكل جلي ضد الفكر والفلسفة داخل المناهج والمقررات. فلنجعل إذا من كل نهاية توقفنا/ فشلنا عندها هي بداية لتفكير جديد( الاعتراف بالفشل…) ” بداية النهاية ” لماذا ؟ لأن الفلسفة في عمقها وأصلها هي التفكير في الممكنات للوضع البشري، في الحياة وقبل الحياة وبعد الحياة. وفي ما معناه نجد وضع الإنسان كما قال هيدغر ” يولد ويعيش ويموت ” تفكيرنا لا يقف على أهمية هذه عناصر الثلاث ” يولد ” و ” يعيش ” و” يموت ” بقدر ما يهمنا كيفية الانتقال، الانتقال من مرحلة الى أخرى وهو الفشل/ الخلل الذي يعبر عن أزمة التعليم في بلادنا. أزمة لا تخرج عن ثلاث أسس:
خلل على مستوى الخصائص الذي ينهجها النظام السائد في التعليم.
خلل في ضعف الرؤية الكلية من اجل الوصول الى الكيفية/ النسقية بين هذا الكلي لا الوصل بغلة التربويين الى أجزاء الكل.
السقوط في التقليد وعدم ملائمة التقليد للبيئة التربوية أو للمجال مطبق فيه.
سيستخلص القارئ أن ما وصل إليه التعليم في المغرب من تدني المستوى، هو أنه بكل بساطة ناتج من جهة عن عدم الرغبة في النهوض بهذا القطاع، ومن جهة أخرى التعليم هو انفصال بين ما نُعَلِمُ وما نُنتج، إي أن هناك تناقض بين التعليم والحياة.
إن الفلسفة إذا كانت هي الحياة ، هي التفكير في الإنسان لذاته ومن أجل ذاته، فمنطق التعليم في بلادنا هو إفساد للإنسان ولإنسانية الإنسان. وهذا التناقض راجع بالأساس الى:
غياب سياسة كلية/ نسقية للتعليم.
فشل في ربط العلاقة بين المناهج والحياة الاجتماعية.
تهميش منطق التفكير والفلسفة كحل للرقي وإعادة الاعتبار للإنسان بما هو إنسان.
العمل بمبدأ السلب السلبي لا باعتباره جدل/ دياليكتيك.
أعتقد أننا بوعي منا أو بدون وعي وصلنا من غير إرادتنا الى التجربة التي كان ينادي بها مفكر نمساوي ايفان إليتش – Ivan Illich1926- من خلال عمله ” مجتمع بلا مدرسة. لكن بشكل مختلف تماما عما نهجه هذا المفكر، فإذا كان هو يرفض فكرة المدرسة في شكلها القديم وينادي بقيام مجتمعات بدون مدارس لعدة أسباب أهما ” ان التعلم لا يجب أن يقتصر على فضاء المدرسة ، و أن المدرسة للكل وليست للخاصة، وان المال المخصص للمدرسة يهم كل الفئات لا المحظوظون منهم فقط … وغيرها من الأسباب التي لا يسعنا ذكرها هنا. فكيف سيكون جوابنا هنا عن مجتمع يرفض المدرسة. ما هي المبررات والدوافع …؟ سؤالنا هذا يدفعنا الى الإجابة بدون تردد على أن منطق سياستنا التعليمية يعمل بمنطق أخر لم يكتشفه حتى أرسطو والمناطقة بعده، إنه منطق ” تدجين المتعلم “استجابة لقيمها التي تخدم المجتمع الرأسمالي ، وبهذا فقد حققت إدمان أدامي بعقل ألي. لقد جعلنا من الإنسان بهذا المنطق كائنا/ حيوانا مطيعا يفتقر الى ما يجعله إنسان، والفلسفة بالمقارنة مع هذا استطاعت أن تخرج وأن تجعل المشتغل بها / والواعي بها فوق التاريخ إن صح التعبير، إنه مُسَير لذاته لا مُسَاير .
بعد هذه الإطلالة القصيرة نقول أن البحث عن مخرج هو بحث عن كيفية التفكير، وهذا لا يمكن تعلمه إلا في نطاق الفلسفة. وبالتالي فالحلول التي نبحث عنها لا تكمن خارج الذات، بل هي في إعادة النظر لذواتنا. وعدم الإعلان عن نهاية توقفنا دون أن تكون لدينا بداية أخرى لتلك النهاية.