سلايدمجتمع

تارودانت: صفحات من تاريخ المقاومة والعمل الوطني( 1912 – 1956)




نور الدين صادق


تاريخ المقاومة لم يكتب بعد:


لم
يكتب بعد لتاريخ المقاومة المغربية أن يجد طريقه إلى جمهور القرّاء
المتعطشين من جيل ما بعد الاستقلال، حيث لم يصلنا منه إلاّ نزر من الأحداث
المتفرِّقة من هنا وهناك تركَّز جُلُّها في بعض المدن الكبرى. كما أننا
لا نعرف من أبطال هذا التاريخ سوى ثلّة يسيرة كان السبب في وصول أسمائها
إلينا وقوفها وراء أحداث معروفة زلزلت في حينها كيان المستعمر، أو
استشهادها في مواقف بطولية رسخت ذكرها في قلوب وعلى ألسنة من عاصرها من
المغاربة، في حين لم يصلنا من ذلك كلِّه غير ذكرى باهتة لا ترقى إلى مصاف
المعرفة الدقيقة بتفاصيل حياة هؤلاء الأبطال، ولا بحقيقة أدوارهم
ومساهماتهم في تخطيط وتأطير وتنفيذ أعمال المقاومة في مختلف أطراف هذا
الوطن.

وتقف
وراء هذه الوضعية عوامل مختلفة منها ما يرتبط بطبيعة عمل المقاومة الذي
يقتضي سِريّة تامة، كما يفرض غياب الوثائق المكتوبة، أو تدميرها – إن وجدت –
بمجرد الانتهاء من استعمالها. من ثم تبقى أحداث هذا التاريخ ووقائعه
وشخصياته وحقائقه أسراراً تتلجلج في صدور رجالات المقاومة الذين بدأ
أغلبهم في الرحيل إلى دار البقاء حاملين معهم جزءاً هاما من تراث هذا
الشعب وتاريخه، الذي نحن اليوم في أمس الحاجة إلى معرفته والإطلاع عليه،
حتى نفهم حاضرنا في سياقه التاريخي ونعي مختلف تشعُّباته، وحتى ندرك حقيقة
الثمن الذي أدَّاه رجالات ذلك الجيل لننعم نحن اليوم بما ننعم به من حرية
وكرامة وطمأنينة.

 ولعلَّ
مماّ يجعل التفكير في كتابة تاريخ المقاومة، وتاريخ الحركة الوطنية بصفة
عامَّة، أكثر إلحاحاً في هذا الظرف بالذات، إشراف جيل الحركة الوطنية على
إتمام الانسحاب من الميدان السياسي، وهو ما أطلق عليه الدكتور عابد
الجابري ” أفول المجال السياسي التقليدي في المغرب”. وهذا أمر يجعل التفكير
في تاريخ الحركة الوطنية تفكيرا في حاضر المغرب ومستقبله.

وربّما
كان لذلك الموقف الأخلاقي الذي اتّخذه بعض من المجاهدين الشرفاء من موضوع
الحديث عن ذكريات جهادهم، أثر واضح في ندرة معلوماتنا عن تفاصيل أحداث هذه
الفترة الحسّاسة من تاريخنا الوطني. حيث آثر العديد منهم الاحتفاظ بتلك
الذكريات في صدورهم، اعتقاداً منهم-عن حسن نية-أن الحديث عن بطولاتهم
 ومعاناتهم … يعتبر من قبيل المنِّ بأعمال أنجزوها في سبيل الله والوطن
والعرش، وما كانوا لينتظروا عنها جزاءً ولا شكورا. ومن ضمن أولئك الذين
تبنوا هذا الموقف: المجاهد الوطني والمناضل السياسي المرحوم مولاي عبد
الحفيظ الواثر، فرغم المحاولات المتكررة التي قام بها عدد من الباحثين
والمهتمِّين، ومن ضمنهم أصدقاء الفقيد وكذا بعض رفاقه في الكفاح الوطني،
فإنه ظلّ، رحمة الله عليه، ثابتا على رأيه متمسكا بموقفه. وما كان من
اليسير علينا أن نقنعه بأنَّ ما يحتفظ به من معلومات وأخبار تشكل إرثا
مُستحقاًّ لجيلنا، و أمانة لديه ولدى رفاقه عليهم أن يقوموا بتسليمها
إلينا وفي هذا الظرف بالذَّات، لولا وثوقه من صفاء الطَّوِيَّة وصدق
النَّوايا التي كانت تحرك مشروعي، الهادف إلى إنجاز دراسة تُسلِّط الأضواء
على حلقة ظلَّت مُغيَّبة من تاريخنا الوطني حتى طواها النسيان أو كاد،
ونعني بذلك مساهمة مدينة تارودانت في أطوار العمل الوطني والمقاومة
المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي. والتي نكاد نجزم أن شباب المدينة اليوم
يوشك أن يجهل كل شيء عنها وعن رجالاتها، وخصوصاً منهم أولئك الذين
اختطفتهم يد المنون غداة الاستقلال، أو الذين آثروا البقاء خارج معترك
الحياة السياسية للمغرب المستقل.

تجدر العمل الوطني وروح المقاومة في القبائل السوسية:

إن
أول ما يستوقف نظر القارئ المطلع على تاريخ سوس، تجدر روح المقاومة في
القبائل السوسية عبر مراحل تاريخها. ويمكن أن نتوقف عند حدثين تاريخيين
يكشفان بجلاء هذه الظاهرة:

فمع
نهاية القرن 15م ومطلع القرن 16م، أصبح المغرب – وعلى غير سابق
عادته-مهددا بالغزو الأجنبي الإيبيري المسيحي في عقر داره، فما كان من
قبائل الإقليم السوسي إلا أن تجندت للجهاد، وهيأت لذلك كل ما توافر لديها
من مال ورجال وعتاد، وسجلت بذلك إحدى الملاحم الكبرى في تاريخنا الوطني
الحديث، وقد حملت هذه القبائل أسرة الشرفاء السعديين إلى السلطة، هذه
الأسرة التي تمكنت من طرد المستعمرين العتاة، وأعادت للمغرب الوحدة 
والأمن والاستقرار. 
وقد
توقفت عند هذه الفترة بالذات لكون هذه الملحمة تتميز عن غيرها من الملاحم
السابقة التي حققها المغاربة ببداية تبلور الشعور الوطني، المرتبط
بالدفاع عن كيان جغرافي محدد، وعن إطار بشري واضح المعالم، بحث لم يعد
الأمر منحصرا فقط على المستوى الديني، هذا المستوى الذي لا يمكن تغييبه
بطبيعة الحال.

أما
الحدث الثاني فيتعلق بتوقيع معاهدة الحماية سنة 1912، فعلى إثر هذا
التوقيع انطلقت أولى حركات المقاومة الشعبية من الجنوب المغربي في تلاحم
وتناغم قل نظيريهما بين قبائل الصحراء والقبائل السوسية بقيادة الشيخ أحمد
الهيبة ابن الشيخ ماء العينين. وقد كان لقبائل سوس وخاصة منها القبائل
المحيطة بتارودانت وبصفة أخص قبائل هوارة مكانة خاصة عند أحمد الهيبة الذي
اعتمد عليها كثيرا في مواجهة الاستعمار وعملائه، خاصة بعد انسحابه من
مراكش على إثر هزيمة سيدي بوعثمان حيث استقر بتارودانت. وبهذا الصدد يشير
العلامة المختار السوسي : “أما الهيبة فأول ما صنع بعد أن تنفس في
تارودانت، أن ولى باشوية المدينة للقائد محمد بن حميدة الهواري،وكان
معروفا (…) بالشجاعة وصلابة القناة (…) فرآه أصحاب الهيبة أفضل من
يعتمدون عليه، وقبيلة هوارة أعظم القبائل التي تقطن ضواحي المدينة…” (
المعسول،ج:4،ص:165).

وقد
مكث الهيبة في تارودانت سبعة أشهر ونصف ( من عيد الفطر 1330/1912 إلى 17
جمادى الثانية1331/1913)، أبلى خلالها سكان تارودانت في الدفاع عن مدينتهم
التي ظلت منذ ذلك التاريخ تحت حصار القوات المتحالفة الموالية للاستعمار
المكونة من فرق كلاوة، وجيش حيدة اميس، وقوات سكتانة وأتباع الكندافي، وكل
هذه القوات عززها الاستعمار بالذخائر والسلاح والمدافع. فوقعت بين
الطرفين معارك عديدة أبرز فيها هوارة وأهل تارودانت أبرز صور الصمود
والشجاعة. وتعرضت المدينة لقصف مدفعي مكثف خاصة في يوم 28 يناير 1913، كما
تشير إلى ذلك تقارير الإقامة العامة الفرنسية. ولم يخرج الهيبة من
تارودانت إلى بعد مواجهته لجيش جرار متحالف على رأسه قواد كبار هم :
الكلاوي، العيادي، حيدة أميس، يقودهم خليفة السلطان مولاي الزين.

أعلام ضمنوا استمرار روح المقاومة بعد حركة الهيبة:

ظلت
روح المقاومة مستمرة في قبائل سوس وفي سكان تارودانت، وإن غيرت وسائلها
بعد استحكام شوكة المستعمر وغطرسة أذنابه. وقد استمر عدد من الأعلام في
القيام بواجبهم المقدس ومنهم :

سيدي
أحمد التيوازيوني: كان أستاذا بمدرسة عين المديور، وقد سجنه الاستعمار في
تارودانت أزيد من عامين بتهمة ترويج السلاح ودسه للمناوئين في الجبال
السوسية، وقد شاخ الرجل ونالت منه المحنة وكثرة الإستنطاقات وقد توفي رحمه
الله حوالي سنة (1957م/1337هـ).

سيدي
رشيد بن الحاج مبارك بلمصوت: وقد تشبع بالفكر الوطني بالقرويين، واعتقل
بفاس في وقعة الظهير البربري سنة 1930 مع قادة الحركة إذ ذاك. وبعد نفيه
إلى تارودانت (مسقط رأسه) سجن بها سنة 1933.

وفي
سنة 1943/1362 كان ثاني اثنين نجحا في امتحان العالمية بالقرويين ومنع من
نيلها نظرا لأفكاره الوطنية. وهو ما جعل السلطان محمد الخامس يبعث له
برسالة خاصة ويصدر قرارا وزاريا يمنحه بواسطته هذه الشهادة التي حرم منها.
وقد صدر القرار في 18 شوال 1365/شتنبر 1946.

وبعد
أن تولى القضاء بإكودار من المنابهة ظل يعمل سرا مع ثلة من الوطنيين
الأفذاذ أمثال: مولاي سعيد بن السعيدي، وسي محمد هرماس، والحاج إسماعيل
رضا، وعمر الساحلي، وكانت لهم حسب ما أورده المختار السوسي خلايا سرية.

وقد
نقل السوسي عن أحد كبار المستعمرين قوله : ” لولا رشيد في سهول سوس،
والمختار في جبال سوس لسلم سوس من وسوسة الوطنية…” ثم علق المختار
السوسي على هذا الكلام بقوله : ” وأنا أقر كما يعلم المطلعون أنني لست في
مسلاخ هذا الأخ ولا في عزيمته، والحق أحق أن يقال.” (المعسول، ج: 18، ص:
68/69).

استمرار روح المقاومة في أوساط الشباب:

تشبع
ثلة من خيرة شباب تارودانت بالروح الوطنية إقتداء بمن سبق ذكرهم من
الرواد، فانخرطوا في العمل السياسي، واعتنقوا افكار حزب الإستقلال،
وتكاثفت لقاءاتهم ونشاطاتهم إلى أن اعتقل العديد منهم في شهر نونبر  سنة
1952 على إثر احتفالهم بذكرى عيد العرش استجابة لنداء الحركة الوطنية.وكان
عدد المعتقلين يبلغ العشرين من أبرزهم : سي محمد المنّاوي ألحيان، الشيخ
موسى شيخ قبيلة أولاد يحيى، سي إسماعيل هرماس، مولاي سعيد بن
السعيدي(القاضي)، مولاي رشيد السملالي، الطيب بورجا وعدد من رفاقه من
قبيلة إدا وزدُّوت… وفي سجن تارودانت ستصاغ صفحة جديدة من تاريخ العمل
الوطني بتارودانت حيث سيلتقي هؤلاء الشباب بشاب روداني لم يكن لهم أن
يعرفوه قبل الآن: وهو المرحوم مولاي عبد الحفيظ الواثر الذي عاد إلى موطن
أسرته منفيا من مدينة وجدة على إثر مشاركته في تنظيم وتأطير الحركة
الاحتجاجية التضامنية مع الشعب التونسي الشقيق على إثر اغتيال الزعيم
النقابي فرحات حشاد.

رحلة المنفى إلى تارودانت

وجَّه
باشا وجدة إلى مولاي حفيظ عددا من التُّهم من ضمنها: التَّحريض على
الإضراب، والدعوة إلى العِصيَان والشَّغب، فأصدر في حقه حكما بالسجن،
والنفي إلى موطن أسرته الأصلي: أي إلى تارودانت

هكذا
انطلقت أطوار رحلة العذاب عبر عدد كبير من المدن المغربية انطلاقا من
وجدة، ومرورا تاوريرت، جرسيف، فاس ومكناس، الخميسات، سلا، المحمدية… ثم
وصولا إلى تارودانت أوائل شهر مارس من سنة1953. ويصف مولاي حفيظ هذه
الرحلة قائلا: “مررت خلال رحلتي هذه بحوالي خمسة وعشرين أو ستة وعشرين
سجنا، قضيت في كل منها أياما معدودة. وكانت الرحلة من سجن إلى آخر تتم في
غالب الأحيان مشيا على الأقدام، وقد أُعطيت للحرّاس المرافقين لنا تعليمات
صارمة، لِذا كان كل اثنان منهم يأتيان بحصان أو حصانين يركبانهما، في حين
أُكَبَّل أنا ورفيقي ونُربط بحبل نُجَرُّ بواسطته وراءهما. لكن الاستقبال
الحار الذي كنا نلمسه في سكان الدّواوير التي نمر بها، وإكرامهم لنا
بأنواع المأكولات، وإبرازهم لكل مظاهر التعاطف والمؤازرة، كان كل ذلك من
الأمور التي تجعلنا نشعر بنشوة ومتعة لا توصف، هي التي كانت تخفف عنا تلك
المعاناة”. طوال الأشهر الثلاثة التي استغرقتها الرحلة، لم يكن مولاي حفيظ
يُفَوِّت أي فرصة للاتصال.

اللقاء بوطنيي تارودانت بسجن القصبة

في
عتمة ذلك الدهليز دنا من مولاي حفيظ شاب وسيم، هو أيضا من نزلاء هذا
السجن، فبدأ يستفسره عن جهة قدومه وأسباب اعتقاله… ثم بعد حين عاد إليه
يحمل رغيفا مَحْشُوًّا باللحم والخضر قدَّمه إليه وجدّد الترحاب به، ولم
يكن ذلك الشَّاب غير المرحوم سي محمد العاكف (الرَّزاني)،وكان حينها –رحمه
الله- معتقلا ضمن من اعتقل من الشباب الوطنيين بتارودانت على إثر
احتفالهم بذكرى عيد العرش لنونبر1952.

ومن
ضمن الوطنيين الذين وجدهم مولاي حفيظ بسجن القصبة، إضافة إلى سي محمد
العاكف، يتذكر كلا من: سي محمد المنّاوي ألحيان، الشيخ موسى شيخ قبيلة
أولاد يحيى، سي إسماعيل هرماس، مولاي سعيد بن السعيدي(القاضي)، مولاي رشيد
السملالي، الطيب بورجا وعدد من رفاقه من قبيلة إدا وزدُّوت… وأسماء أخرى
يفوق عددها عشرين معتقلا.

وقد
أشرنا من قبل إلى أن احتفال شباب تارودانت بعيد العرش لسنة 1952 خلف رجة
عنيفة لدى سلطات الحماية، وسرعان ما جاء رد فعلها متمثلا في حملة اعتقالات
واسعة في صفوف الشباب الوطنيين من أمثال: “محمد العاكف، إسماعيل هرماس،
أحمد نِعمة، م.العربي مْزيود … وغيرهم كثير”. كان السجن إذن موعدا للقاء
غير مرتقب، لقاء شكل نقطة البداية في سجل الشهامة الحافل الذي سيملأ
صفحاته هؤلاء الشباب منذ ذلك الحين.

استئناف النشاط السياسي بعد الخروج من السجن

سرعان
ما باشر الشبان الأربعة: (م. حفيظ، م. رشيد السملالي، سي محمد المناوي
ألحيان و سي حسن بن الطاهر اللودعي) اتصالاتهم بأعضاء اللائحة المتفق
عليها، فوجدوا استعدادا مبدئيا لدى أغلب عناصرها، ولم تمض أيام قلائل حتى
بلغ عدد المنخرطين في صفوف هذا التنظيم الجديد لحزب الاستقلال ما يزيد عن
الستِّين، في وقت كان فيه نشاط الحزب محظورا من طرف سلطات الحماية وذلك
منذ 12ديسمبر1952.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى