د.جواد مبروكي
ألاحظ أن كل المغاربة أصبحوا سياسيين ومحللين للأوضاع العامة في المغرب وبقية العالم. كما يُقدّمون حلولا هائلة لكل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المحلية والدولية. ونجد في المغرب ظاهرة فريدة من نوعها وتجربة وحيدة على المستوى العالمي، وهي ناجحة جدا لحد الآن، ولعلها هي سر تقدم مجتمعنا حتى هذه الساعة! يتجلى الأمر في العدد الذي لا يحصى من المجالس “البارْ-لاّ- مّا- نِّيَّة” التي تشتغل بدون توقف ليلاً ونهاراً.
بل الحِسُّ الوطني والاجتماعي يجعل كل مغربي مختصاً في السياسة ويحلل ويبرمج لخير مجتمعه مهما كانت نوعية مهنته التي يمارسها، سواءً كان أستاذا أو نجارا أو بائع السمك!
وحيث تلقي ببصرك، لا ترى سوى الاجتماعات “البارْ-لاّ- مّا- نِّيَّة” في المقهى والإدارة والسوق ودرب الحي وفي المنزل وفي “الْبارْ” وفي الحمام وحول طاولة الأكل وأثناء مشاهدة شاشة التلفزيون والهاتف المحمول والحاسوب وحتى في الأعراس والأعياد والجنازات والمقابر. إن الوقت ثمين جداً ولا مجال لضياعه، وكل الفرص تُستغل من أجل خدمة المجتمع!
والعجيب في الأمر، وهو مؤشر عظيم على درجة نضج الديمقراطية في مجتمعنا، أن كل هذه المجالس “البارْ-لاّ – مّا- نِّيَّة” لا تكلف أدنى ميزانية مالية وتشتغل مجانا من أجل خدمة الصالح العام وتقدم المجتمع. بل هذه المنظومة “البارْ – لاّ – مّا – نِّيَّة” لا تمر عبر اقتراع عام، ولكن كل مغربي له الحرية في ترشيح نفسه، إذ يكفي أن ينتخب على نفسه ليحصل على مقعده. وهناك عدد ضعيف جدا من المغاربة من يرفض الترشيح للمجالس “البارْ- لاّ- مّا- نِّيَّة” ويفضل أن يبقى “سِّي- آ- سِّي” عوض سياسي.
أما الذي أثار اهتمامي كمحلل نفسي هو أن هذه التجربة المغربية ليست الوحيدة من نوعها في ما يتعلق بالعدد الهائل من المجالس “البارْ- لاّ- مّا- نِّيَّة”، وأن لكل مغربي مقعداً يعمل به مجانا ولا حتى نظام الترشيح والانتخاب الجد ديمقراطي، ولكن ما أبهرني أكثر هو هروب هذه الأقلية المغربية من هذه المقاعد “البارْ- لاّ- مّا- نيَّة”، حيث يفضل المغربي من هذه الفئة أن يبقى “سِّي- آ- سِّي” في عزلة وبعيداً كل البعد عما يجري في واقع المجتمع، حيث يمضي وقته مع أصدقائه من أفراد أقليته يتحدثون في جميع الأمور ماعدا السياسة والمجتمع والاقتصاد، ظانين بأن أسباب تأخر نمو المغرب راجع إلى العوامل التالية:
– البطالة: سببها ارتفاع الراتب الشهري لكل مغربي منذ ولادته وطوال حياته.
– الأمية: سببها مجانية وجودة التعليم وكثرة المدارس والأساتذة (لكل تلميذ مغربي قسم وأستاذ)، كما أن النجاح هو تلقائي لكل التلاميذ.
– كثرة الأمراض: سببها كثرة المستشفيات والأطباء (لكل مغربي طبيبان على الأقل) ومجانية العلاج ومجانية الأدوية.
– الأزمة الاقتصادية: راجعة إلى مجانية التغذية والسكن (لكل مغربي سكنان: صيفي وشتوي) والنقل (لكل مغربي ثلاث سيارات) والكهرباء والماء البارد والساخن على مدار السنة.
كما يظن كل “سِّي- آ- سِّي” أن مجانية الخدمة “البارْ- لاّ- مّا- نِّيَّة” ستتسبب مستقبلا في أزمات اجتماعية واقتصادية لأن المجانية لا تولد أي ربح وتقدم وتتسبب في الخسائر والإفلاس.
ولما دردشت مع هذه الأقلية المغربية، صارحني عضو “سِّي- آ- سِّي” من هذه الأقلية بأن هؤلاء السياسيين يستخفون ويُهينون كرامة المهنة “البارْ- لاّ- مّا- نِّيَّة” بمجانيتها وكثرة تعدد مجالسها ودوراتها بالمئات والآلاف في الوطن، و”ماشِي مْعْقولْ كُلْ مْغْرِبي سْياسِي وبارْ-لَّ-ماني”!
وزاد قائلا: “إوَا الواحْدْ مَيْبْهْدْلْشْ بْراسُو وْيْبْقَى يْخْدْمْ بْالليل والنهار بْلا فْلوسْ بْلا والو”. بينما انعزل بي “سِّي- آ- سِّي” آخر وقال بصوت منخفض: “حْنا ما بغِيناشْ نْوْسْخّو بْراسْنا ونْهْبْطو حتى لْهادْ الدرجة ويبقى كلْشّي يْعَيّْطْلِي بْسْمْيْتي واشْ تْقَادّينا؟ أَلاّ أسِيدي، كَيْخْصْ الاحترام التام ويْعَيْطولِيَّ “السِّي آ سِّي” فلان.
ثم فجأة التحق بنا “سّْي-آ- سّْي” ثالت وصرح قائلا: “حْنا بْغينا يْكونْ اقتراع عام ومَيْبْقاوْشْ كل هادْ المجالس “البارْ- لاّ- مّا- نِّيَّة”. راهْ هادْشّي حْشومة قْبالتْ العالم، راه كل الدول المتقدمة عندها مجلس “برلماني” واحد فقط!