ميلود بلقاضي*
مثّل انعقاد المجلس الوزاري الأول مع حكومة سعد الدين العثماني يوم الأحد الماضي حدثا استثنائيا في تاريخ المغرب المعاصر، استثناء في الشكل وفي المضمون؛ بل استثناء حتى في السياق الذي يوصف بالدقيق وبالصعب، في ظل المسار الذي اتخذه الحراك بالحسيمة بعد بلاغ الناطق الرسمي باسم القصر الملكي.
مثّل انعقاد المجلس الوزاري الأول مع حكومة سعد الدين العثماني يوم الأحد الماضي حدثا استثنائيا في تاريخ المغرب المعاصر، استثناء في الشكل وفي المضمون؛ بل استثناء حتى في السياق الذي يوصف بالدقيق وبالصعب، في ظل المسار الذي اتخذه الحراك بالحسيمة بعد بلاغ الناطق الرسمي باسم القصر الملكي.
سياق بلاغ الناطق الرسمي باسم القصر الملكي
تزامن إصدار بلاغ الناطق الرسمي باسم القصر الملكي بعد المجلس الوزاري مع ارتفاع حدة الحراك بالحسيمة واستمرار الدولة في اعتقال المحتجين والإعلان عن عدة تغييرات وتنقيلات لمسؤولي الإدارة الترابية؛ لكن دون تغيير والي جهة طنجة تطوان الحسيمة.
وكان من المنتظر أن تهيمن أحداث الحسيمة على أشغال المجلس الوزاري بعد فشل الحكومة ووفودها المتتالية في وقف الحراك بالحسيمة؛ الأمر الذي جعل ملك البلاد يعبر عن قلقه واستيائه وسخطه على الحكومة ووزرائها الذين وقفوا عاجزين وتائهين أمام تطور الحراك بالحسيمة الذي أساء كثيرا إلى صورة المغرب وطنيا وإقليميا ودوليا حاولت وتحاول بعض القوى استغلاله لخدمة أجندتها ضد أمن المملكة واستقرارها.
وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار قلق البلاغ تجسيدا لطبيعة السياق العام المغربي المقلق، الذي عقد فيه المجلس الوزاري.
البلاغ والعودة القوية للملكية التنفيذية
لا شك في أن تدخل جلالة الملك بالمجلس الوزاري جاء قويا وصارما في شكل لغته أو في رسائل مضمونه معتمدا في ذلك على مضمون الفصلين 42 و49 من الدستور، خصوصا بعد تأكيد الحراك بالحسيمة عجز الحكومة والأحزاب السياسية كوسائط اجتماعية عن القيام بأدوارها المنوطة بها دستوريا.
والأكيد هو أن انهيار هاته الوسائط الاجتماعية له مخاطر؛ في مقدمتها جعل المحتجين في مواجهة مباشرة مع المؤسسة الملكية، الأمر الذي دفع بالمؤسسة الملكية إلى أخذ الأمور بيدها وممارسة صلاحياتها الدستورية كمؤسسة تنفيذية قوية أمام حكومة تائهة وأحزاب عاجزة.
وقد تجلى هذا العجز في فشل رئيس الحكومة التحكم حتى في أجهزة حزبه، أي حزب العدالة والتنمية – الحزب المعروف بالانضباط- بمنطقة الريف التي تمردت عليه واتخذت مواقف مناقضة لبلاغ أحزاب الأغلبية ليوم 5 ماي المنصرم.
وأمام تحديات وتطورات الحراك بمنطقة الريف والرفع من سقف المطالب وتيه الحكومة وانهيار الوسائط الاجتماعية، فمن المنطقي أن تبرز الملكية كسلطة تنفيذية قوية حفاظا عن أمن واستقرار البلاد واتخاذ القرارات الملائمة؛ من بينها إمكانية القيام بتعديل حكومي جوهري، بعد اقتناع كل مكونات المجتمع المغربي بأن الحكومة الحالية أصبحت متجاوزة أمام تسارع وتيرة الحراك.
شكل بلاغ الناطق الرسمي باسم القصر الملكي
تطور الأحداث بالحسيمة جعل ملك البلاد يخاطب رئيس الحكومة ووزراءه بلغة قوية الدلالة مفادها أنه غير منطقي وغير معقول وغير سليم وغير أخلاقي سياسيا أن لا تلتزم الحكومة بالمشاريع التي توقع أمام جلالته؛ لأن من شأن ذلك جعل المؤسسة الملكية في حرج أمام الشعب، وهو ما يمكن أن تكون له بعض المخاطر على مسألة الثقة في المؤسسات.
وطبيعي في مثل هاته السياقات أن يعبر جلالة الملك بصفته رئيس الدولة –الفصل42- عن قلقه وانزعاجه من عدم تحمل الحكومة مسؤولياتها الدستورية في مجال تدبير السياسات العمومية وتنزيل أسس الجهوية المتقدمة ونهج المقاربة الاستباقية في تدبير الأزمات الاجتماعية… وعليه، فإن قلق جلالة الملك وانزعاجه اتجاه الحكومة قد جسده شكل البلاغ الملكي.
مضمون البلاغ
عادي جدا في مثل شروط إنتاج بلاغ الناطق الرسمي باسم القصر الملكي أن يكون مضمونه عبارة عن نقد لاذع للحكومة وكيفية تدبيرها لملف الحراك بالحسيمة الذي دام أكثر من 7 أشهر، وكان منتظرا أن يثور ملك البلاد في وجه وزراء حكومة العثماني وأن يرسل إليهم رسائل صارمة وزعت بين المحاور التالية:
1- تحميل الحكومة مسؤولية عدم تنفيذ المشاريع التي يتضمنها البرنامج التنموي الكبير، الذي تم توقيعه أمام جلالة الملك بتطوان في أكتوبر 2015، في الآجال المحددة لها؛ وبالخصوص مشروع “الحسيمة منارة المتوسط”، الذي أعطى انطلاقته الملك في أكتوبر 2015. ويتعلق بإنجاز المراكز الاستشفائية المتخصصة، وبناء مطار الشريف الإدريسي، وتهيئة منطقة صناعية، وبناء ملعب كبير لكرة القدم، وإحداث مسبح أولمبي، وقاعة مغطاة بمعايير دولية، وتشييد قاعتين مغطاتين بجماعتي أجدير وإساكن، وتهيئة ملاعب رياضية لفرق الهواة، إلى جانب بناء مسرح ومعهد موسيقي ودار للثقافة وإنجاز عدد من المشاريع الاجتماعية، الموجهة بالأساس إلى الشباب والفئات الهشة… وقد وقع الاتفاقية، آنذاك، كل من وزير الداخلية محمد حصاد، الذي يشغل منصب وزير التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي حاليا، ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق، ووزير الاقتصاد والمالية محمد بوسعيد، ووزير الفلاحة والصيد البحري عزيز أخنوش، ووزير التربية الوطنية والتكوين المهني السابق رشيد بلمختار، ووزير الصحة الحسين الوردي، ووزير السياحة السابق لحسن حداد، ووزير الشباب والرياضة السابق لحسن السكوري، والوزير المنتدب لدى وزير النقل والتجهيز واللوجستيك المكلف بالنقل محمد نجيب بوليف، والوزيرة المنتدبة لدى وزير الطاقة والمعادن والماء والبيئة المكلفة بالبيئة سابقا حكيمة الحيطي، والوزيرة المنتدبة لدى وزير الطاقة والمعادن والماء والبيئة شرفات أفيلال.
ويتبين من المشاريع التي لم تنجز كان يشرف عليها وزراء من أحزاب العدالة والتنمية، ووزراء من التقدم والاشتراكية، ووزراء من حزب الحركة الشعبية، ووزراء من حزب التجمع الوطني للأحرار، ووزراء مستقلون؛ وهو ما يعني أن جل الأحزاب المشكلة لحكومة العثماني الحالية هي التي تتحمل مسؤولية عدم التزامها بإنجاز المشاريع التي وقعت أمام جلالة الملك والتي هي أحد أسباب الحراك بالحسيمة، وهو ما يعني أنه إذا ما ثبت مسؤولية هؤلاء الوزراء في عدم إنجاز المشاريع التي وقعوها أمام جلالته فإن مآلهم سيكون الإعفاء أو الإقالة ثم المحاسبة.
2- منع ملك البلاد وزراء القطاعات المعنية من عطلهم السنوية؛ وهو ما يدل على أن الوزراء المسؤولين على الخصوص على هذه القطاعات في الحكومة الحالية سيعيشون صيفا ساخنا وضغوطات كبرى في انتظار تقارير لجن التفتيش التي كلفها جلالة الملك بذلك مما يوحي بأن بقاء التعديل الحكومي لن ينتظر شهورا؛ بل إنه قد يحدث في عز فصل الصيف.
3- إصدار الملك محمد السادس تعليماته إلى وزيري الداخلية والمالية، قصد قيام كل من المفتشية العامة للإدارة الترابية بوزارة الداخلية والمفتشية العامة للمالية بالأبحاث والتحريات اللازمة بشأن عدم تنفيذ المشاريع المبرمجة، وتحديد المسؤوليات، ورفع تقرير بهذا الشأن، في أقرب الآجال؛ وهو ما يعني أن جلالته يحمل الحكومة المسؤولية الكاملة في الحراك بالحسيمة.
4- رفض جلالة الملك تقديم مشاريع واتفاقيات لا تستوفي جميع شروط الإنجاز، سواء في ما يتعلق بتصفية وضعية العقار، أو توفير التمويل، أو القيام بالدراسات، على أن تعطى الانطلاقة الفعلية للأشغال في أجل معقول؛ وهو ما يعني اتساع فقدان الثقة بين الملك وبين الحكومة.
5- مطالبة الملك محمد السادس الأحزاب المشكلة للحكومة أو الهيآت المنتخبة بضرورة تجنب تسييس المشاريع الاجتماعية والتنموية التي يتم إنجازها، أو استغلالها لأغراض ضيقة ليرد بذلك على الاتهامات المتبادلة بين حزب الأصالة والمعاصرة التي يهيمن على جل مؤسسات جهة طنجة تطوان الحسيمة وبين أحزاب الأغلبية، خصوصا حزبي العدالة والتنمية والتقدم والاشتراكية التي تتقاذف مسؤولية الحراك بالحسيمة في بينها.
تداعيات البلاغ الملكي
كل المؤشرات تدل على رئيس الحكومة ووزراء حكومته خرجوا من اجتماع المجلس الوزاري وأيديهم على قلوبهم؛ لأنهم يدركون ما معنى الغضبة الملكية، خصوصا في سياق صعب ودقيق اختلطت فيه الكثير من الأجندات والحسابات.
وعليه، سيتحمل وزيرا الداخلية والمالية، وخصوصا المفتشية العامة للإدارة الترابية بوزارة الداخلية والمفتشية العامة للمالية، مسؤوليات كبرى وحاسمة للقيام بالأبحاث والتحريات اللازمة بشأن عدم تنفيذ المشاريع المبرمجة، وتحديد المسؤوليات، ورفع تقرير بهذا الشأن إلى جلالة الملك ليتخذ القرارات المناسبة في حق الوزرات والوزراء المعنيين.
والأكيد أن ما جرى بالحسيمة يوم العيد أي يوما بعد إصدار البلاغ الملكي سيعقد الأمور أكثر بين الدولة والمحتجين، خصوصا بعد انتقال سقف المحتجين من مطالب اجتماعية إلى مطالب إطلاق سراح المعتقلين، وهي معادلة صعبة: الدولة لا يمكنها أن تفقد هيبتها وهيبة المؤسسة القضائية والمحتجون بالحسيمة لن يقبلوا إلا بسراح المعتقلين.. وبين هيبة الدولة وتعنت المحتجين تتجه كل الأنظار نحو المؤسسة الملكية لكونها تبقى الملاذ الأخير لوضع حد لحراك تجاوز بعض الخطوط الحمراء.
البلاغ الملكي والتعديل الحكومي
قوة لغة البلاغ الملكي ومنع الوزراء من عطلهم السنوية واستمرار الحراك بالحسيمة حتى من بعد البلاغ الملكي وانعقاد المجلس الوزاري – الذي اتخذ فيه ملك البلاد قرارات حاسمة – يؤكد أن حكومة العثماني في أزمة حقيقية ليس فقط بسبب عجزها التدخل لاحتواء الحراك بل كون بعض الأحزاب المشكلة لها تعمل لعرقلة المشاريع التنموية وفق حسابات ضيقة؛ بل إن بعض أحزاب الأغلبية الحكومية تعيش تناقضا غريبا قيادتها المركزية تدين الحراك بالحسيمة وتنسيقاتها وفروعها المحلية تدعم الحراك وتعترف بمشروعيته بل إنها مع مطالب المحتجين لإطلاق سراح كل المعتقلين دون شروط مما يوحي بأنها أحزاب الأغلبية الحكومية أصبحت عاجزة حتى على ضبط قواعدها المحلية فكيف بإمكانها إقناع المحتجين بالحسيمة، ويتعلق الأمر بحزب العدالة والتنمية وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
وانطلاقا من نوعية العلامات اللغوية للبلاغ الملكي ومن العلامات السيميولوجية لنظرات ملك البلاد وإشاراته وإيحاءاته، يمكن تكهن وقوع زلزال سياسي داخل حكومة العثماني في الأيام المقبلة قد يكون أكثر ضحاياه وزراء حزبي التقدم والاشتراكية والعدالة والتنمية، خصوصا إذا ما بقيت هوية التناقض في المواقف تتسع بين الحكومة وبين المحتجين، وما يمكن أن تفرزه من انزلاقات لا بالنسبة إلى الدولة أو بالنسبة إلى المحتجين؛ وهو ما دفع ملك البلاد مطالبة لجن التفتيش إعداد تقارير مفصلة حول كل المشاريع التي وقعت أمامه شهر أكتوبر في أقرب الآجال لاتخاذ قرارات سريعة وعيا من جلالته بأهمية عامل الزمن في تدبير زمن الأزمات.
الأكيد أن جلالة الملك سيغضب على ما وقع يوم العيد بالحسيمة بين قوات الأمن وبين المحتجين، لأنه واع بصعوبة مهمة التفاوض بين الدولة وبين المحتجين؛ وهو ما يقوي إمكانية لجوء جلالة الملك إلى سيناريو تدخل مباشر في الحراك.
*أستاذ التعليم العالي جامعة محمد الخامس
عن جريدة هسبريس الالكترونية