بقلم عبد الرزاق العسلاني
لم يكن البحار الريفي البسيط يعلم أن عبارته التي تفوّه بها “ما عندي بو الوقت دابا” أمام مسؤول حكومي، ستثير كل هذا التفاعل الاجتماعي وستحظى بكل تلك الإشادة عبر مختلف الوسائط التواصلية، بل وتصير مادة للسخرية والتهكم عبر “هاشتاك” يحقق أرقام قياسية في التداول.
بالعودة إلى “الفيديو” الذي وثّق لقاء البحار الريفي، والمسؤول الحكومي الذي انتقل على رأس وفد رفيع من أعضاء الحكومة بتعليمات عاجلة قصد احتواء تداعيات الحراك الاجتماعي بمدينة الحسيمة، للحيلولة دون تمدّد شرارة الاحتجاجات المطالبة بالكرامة والعدالة والاجتماعية والرافضة للإقصاء و”الحكرة”، يمكن الوقوف على مجموعة من الدلالات التي حملها الحوار الذي دار بين “المغربي البسيط” و”المسؤول الرفيع“.
بدا المسؤول الحكومي خلال اللقاء، وبكل ما يمثله من رمزية للدولة وأجهزتها وهيبتها وقوتها، وبكل ما يجرّه وراءه ذات المسؤول من نفوذ وحظوة ووجاهة ومكانة اعتبارية داخل المشهد السياسي الوطني العام، مرتبكا في مواجهة البحار الريفي، مشتت التركيز، تائها في البحث عن ذرائع ومبررات عساها تسعفه في المواجهة والإقناع وأداء الدور المنوط به على أكمل وجه، بينما حافظ البحار الريفي البسيط، الذي بدت عليه علامات النخوة والشهامة والانضباط والمسؤولية والاعتزاز بالنفس، وأثر “الحكرة” أيضا، على هدوئه وهو يستعرض معاناة مهنيّي الصيد البحري بمنطقة الحسيمة.
من المؤكد أن ذات المسؤول، أو على الأقلّ الوفد المرافق له، تمنوا في لحظات من الحوار أن ينتهي الأمر بسلام، وأن “يخرج الله العاقبة بخير”، بعدما لم تنجح كل محاولات الاستعطاف غير المباشرة التي انخرط فيها المسؤول الحكومي، سواء من خلال الحركات والإيماءات الجسدية وطأطأة الرأس بين الفينة والأخرى، أو من خلال نبرات الصوت الذي ازدادت حنيّتها وتخلّصت فجأة من خلفيات “المكانة” وطبيعة المنصب، في ثني البحّار الريفي عن تغيير أسلوب حديثه وطريقة طرح مطالبه والدفاع عنها، في ما يشبه تأنيبا من هذا المواطن للمسؤول الحكومي، وتقريعا له من خلال ترديد كل مرة لازمة “واش فهمتيني ولا لا“.
ولعلّ الموقف الأبرز في لقاء المسؤول الحكومي وبحّار الحسيمة، والذي يعبّر فعلا عن طبيعة العلاقة التي تجمع الدولة ومؤسساتها بالمواطن المغربي، وطريقة تدبيرها في اللحظات التي تغلب عنها الصراعات وتزداد حدّة المطالب الاجتماعية والثقافية، هي حين استدار المسؤول الحكومي، بعدما سرد أمامه البحّار مجموعة من المطالب البسيطة، صوب مرافقيه وهو يحثهم على تلبيتها بأقصى سرعة، ملتمسا من البحار إضافة أخرى، فما كان من ذات البحار إلا أن ردّد عبارته الشهيرة “ما عندي بو الوقت دابا نهضر”، وهي جملة اختزلت موقفا سياسيا رافضا للأساليب المتبعة في معالجة ظاهرة الاحتجاج الاجتماعي، مؤشرة لعدم اقتناع ذات المواطن بإمكانية تفريغ كل تلك الوعود التي يقطعها المسؤول الحكومي في رمشة عين.
قهقات الوفد المرافق للمسؤول الحكومي، والتي أعقبت العبارة القوية التي فجرها أمامهم البحار الريفي “ما عندي بو الوقت دابا نهضر”، هي محاولة لامتصاص قوة الصدمة التي أحس بها الجميع، وللتنفيس على حجم الامتعاض الذي تسرب إليهم وإلى المسؤول الحكومي، ولتبخيس الشجاعة التي أبداها البحار الريفي في مخاطبة وزير “رفيع المستوى”، وللالتفاف على الجرأة القوية التي عبّر عنها مواطن بسيط في محاورة مسؤول رفيع اضطر إلى النزول من برجه العاجي والتخلي عن الكثير مما يؤثث لمثل هاته الخرجات على المستوى الرمزي، والتنازل عنها.
حرص الوفد رفيع المستوى على تجنّب كل ما من شأنه التشويش على انتقالهم الميداني إلى الحسيمة ومناطقها، من خلال اقتصار لقاءاتهم المغلقة على عينة من المنتخبين و”الجمعويين” والأعيان و”المقربين”، واعتمادهم منابر إعلامية دون أخرى رافقت الوفد الحكومي بغية نقل صورة موحّدة لا تشوبها ندوبات أخرى، لم يصمد أمام مجرّد عبارة عفوية اختزلت الواقع الحقيقي الذي يعيشه أبناء الحسيمة ومناطقها، بل وكل جهات هذا الوطن الحبيب.