خلال أيام سندخل جوا جديدا من الهجوم على الجهاز الهضمي
بقطع الغذاء عنه، ولكن هل الصيام هو بيولوجي فقط؟ أم هو دخول إلى عالم
الروح؟
لقد كانت النفس مثل أبو الهول فأعيت الأطباء والفلاسفة،
والمفكرين والعلماء، هذا الصامت الناطق، الجامد المتحرك، والواعي غير
الواعي، ولكن اتفقوا أن أعظم شيء في هذا الوجود هو وجود الإنسان الذي يجمع
كل الجدل فيه (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً).
إن هذه النفس التي تعصف
فيها تيارات الخوف، زوابع الغضب، أعاصير العنف، زمجرة الحقد، رياح الشهوة،
كما يمر فيها نسيم الخير، ويبزغ فيها شمس الأمل، وتنبت فيها زهور الحب،
وتتضوع بعبير التفاؤل وعطر البر والإحسان.
إن هذه النفس هي اختزال
العالم، وشفرته المصغرة، ونسخته المضغوطة، في كيان صغير هش ضعيف، مع هذا
فهو قوي في ضعفه، عظيم في هشاشته، جميل في دقته ورشاقته. (أحسن كل شيء خلقه
وبدأ خلق الإنسان من طين).
هل الخوف أمر طبيعي والحزن شيء عادي؟ وهل
إلى الخلاص منهما من سبيل؟ كيف يمكن فهم الأخلاق؟ بل كيف خلقت الأخلاق،
وتعارف الناس عليها، واتفقوا على الالتزام بها والتقيد عند حدودها؟ ما معنى
أن يصوم الإنسان عن الطعام والشراب؟ ما معنى أن يكف عن القتل؟ ما معنى أن
يتوقف عن العدوانية؟ ما معنى أن يزكي نفسه؟ ما معنى أن يسجد ويركع لرب لا
يراه؟ ما معنى أن يلجم شهواته ويصقل روحه ويمشي باتجاه التكامل النفسي؟
إذا كانت الكرة الأرضية تسبح في مجال مغناطيسي موحد تشير إليه أي بوصلة
تحدد الشمال والجنوب، فإن النفس الإنسانية التي هي خلاصة الوجود، وقمة
الخلق، وإبداع الكون، تحمل ذلك الضمير الذي يشير للخير والشر، والارتفاع عن
النكسة الحيوانية، أو التقدم حتى عن الملائكة لأن الملائكة أمرت أن تسجد
لآدم ولم يؤمر هو بالسجود لها.
إن هناك أدوات للتدخل على كل عالم
بأدواته الخاصة النوعية، من أجل صقله وإعداده لرسالته الكبرى في الوجود. إن
(الصيام) يمثل تلك الأداة التي تصقل النفس الإنسانية باتجاه إيجاد جهاز
الضبط (التقوى). هذا ما يريده الصيام (لعلكم تتقون) والكونترول (جهاز
الضبط) هذا شيء خاص بالإنسان فلم نسمع عن كائن آخر عمل بإرادته ضد غرائزه،
فلم نسمع عن عشب انتحر أو قط مارس الصيام!!فهي ميزة خاصة متفردة بالإنسان
حيث يستطيع التحكم بنفسه، وحين يتحكم الإنسان بنفسه فإن بإمكانه تغيير
العالم، فهو قانون يحكم الوجود.
هكذا يجب أن يفهم الصيام من خلال هذا المنظور الفلسفي، فالبعد الرئيسي للصيام هو أداة الدخول إلى أعقد جهاز موجود في الطبيعة.
لا الكمبيوتر، ولا وكالة ناسا لارتياد الفضاء، لا جهاز الكشف عن شفرة
الكروموسومات، ولا جهاز تسريع الجزئيات دون الذرية في الأنفاق السرية تحت
جبال سويسرا، لا مناجم الذهب، ولا مستودعات الماس، ولا أحواض البترول، كلها
تعني شيئاً أو تقترب في المشابهة مع التعامل مع هذا الحقل الفريد المعقد
(النفس الإنسانية) ونفس وما سواها.
إن الإحساس بالألم إنذار للتدخل
لإنقاذ العضو، وهكذا فانسداد الشريان، واحتشاء القلب، والتهاب المرارة،
وحصاة الحالب، كلها يندفع فيها الإنسان ليراجع الطبيب متسائلاً خائفاً،
يسمع فيها من طبيبه إلى كل كلمة، ويفسر كل تكشيرة وجه، وتقطيب جبين، وحركة
عين، وإشارة سبابة!!
إن المرء يشعر تماماً بالوعكة الصحية، مثل نزلة
البرد، بدمع العين، وسيلان الأنف، وجفاف الحلق، إنه يصرخ من القولنج
الكلوي، وحصيات المرارة، إنه يزعق من موت الطرف بانسداد الشريان، إنه يشهق
من انخماص الرئة والتهاب الجنب، انه يختنق من النوبة القلبية. ولكن هل يشعر
الإنسان بأنه مصاب بـ(مرض) الكبر، و(اعتلال)الحقد، و(انفلونزا) الغيبة
والنميمة، و(ارتفاع ضغط) جمع المال، و (ورم) الشهرة، و(التهاب) الغيرة
والحسد، و(سرطان) حب الرئاسة والقيادة والتملك وقهر الآخرين، التي لن تقود
في النهاية إلا إلى الدمار وخيبة الأمل والتراب الذي سوف يأكل مقلة العين،
ويحلل مادة الدماغ، ويفتت العظم، ويذيب اللحم، ويحيل الكل إلى تراب كما جاء
من التراب.
إن مرض النفس أخطر من مرض العضوية لأنه ليس فيه ارتفاع في
درجة الحرارة، ولا قفز في ضغط الدم، لا إسهال ولا إقياءات، لا شلل ولا نزف.
وإذا كانت كليات الطب قد نمت وازدهرت وسخرت الأبحاث والمليارات لاكتشاف
هورمون، أو القيام بتجربة على أرنب، أو معرفة تفاعل خلوي، فإننا مازلنا
بعيدين جداً عن معرفة هذا العالم الديناميكي الغامض والذي يتوقف على صحته
بقاء العالم.
إن الصيام يشاطر في اقتحام هذا العالم المجهول لكشفه
وتأمله وإعادة التوازن إلى بنائه الداخلي، ولذا فهو دواء قد طلب من كل
الأمم أن تلجأ إليه وتستعمله (كما كتب على الذين من قبلكم) فلا غرابة أن
أعظم ثلاثة اختبارات واجهت المسيح عليه السلام كانت بعد الاستعداد بالصيام
أربعين يوماً. والاستعداد الرهيب للقاء الله حسب الميقات عند موسى وطلب
رؤية الله كان بعد الصيام أربعين ليلة.
إن المرضى الذين يسعفون إلى
المستشفيات، يعمد الأطباء إلى قطع الأغذية عنهم وإعطائهم (المغذيات) التي
هي في الواقع ليست أكثر من ماء، بقصد قطع الغذاء اليومي الذي اعتاده الجسم
أي (تصويمه البيولوجي) هذا ينطبق على الرضوض العضوية اليومية (التراوما)
ولكن الرضوض النفسية نعالجها بمزيد من (المغذيات).
وهكذا فالغضب والحقد
والكراهية والحسد والتنافس الرئاسي والجشع المالي وطيران الشهرة والخيلاء
والكبر كلها لا نعتبرها أمراضاً جديرة بالمعالجة ولذا فإنها تستفحل لتدخل
في اختلاطات ومضاعفات أفظع (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً). ويبقى على
صاحبها أن يدخل عملية جراحية كبرى لإصلاح هذا الاختلاط المريع في قاعة
العمليات الكبرى (المطهر الجهنمي).
(وإن منكم إلا واردها) فالجنة لا
تدخلها إلا النفوس المطمئنة، التي تطهرت إما بجهدها الخاص في الدنيا، أو
بالحريق الكبير في الآخرة!! من هنا كان الصيام ليس فقط الصيام البيولوجي،
بل عن العادات النفسية في دورة سنوية لتنظيف البوصلة الداخلية كي تمارس
نشاطها الصحي، وتؤدي وظيفتها التي خلقت لها، كي تقود إلى تحقيق السلام
الداخلي الذي منه سوف ينتشر السلام الدائم والحقيقي للعالم كله، وعن السلام
الحقيقي والشامل والدائم مع الصيام حديث لاحق.
بقلم خالص جلبي.