أعادت وفاة الطفلة “إيديا”، إثر نزيف حاد نواحي تنغير بسبب غياب التجهيزات الطبية، النقاش حول المستشفيات العمومية في المناطق البعيدة عن العاصمة؛ فالمشكل لا يكمن في غياب التجهيزات فقط، بل في غياب الأطباء والأطقم الصحية أيضا.
جماعات قروية عديدة بالمغرب تتوفر على مستوصفات قروية بدون طبيب، ومراكز صحية عديدة دون تجهيزات طبية كافية لخدمة المواطنين. يتم الإعلان عن مناصب شاغرة إلا أن لا طبيب يرغب في الالتحاق بهذه الأماكن.
لا يوجد طبيب في جماعة تينزولين بإقليم زاكورة، لا يوجد طبيب بجماعة تافتشنا، لا يوجد طبيب بجماعة تاكونيت، ولا بجماعة تاغبالت، ولا بجماعة النقوب، ولا بجماعة تامزموط ولا بجماعة أيت بوداود. وحدها جماعة تازارين تتوفر على طبيب وحيد لأزيد من 40 ألف نسمة، ينتظر منذ أزيد من سنتين من يعوضه لينتقل إلى مكان آخر وهو الذي قضى أزيد من سبع سنوات بالمركز الصحي ذاته، حسب ما استقته جريدة هسبريس الإلكترونية من عين المكان.
غياب طبيب ليس شأنا زاكوريا فقط، وهي التي تتوفر على 16 مركزا صحيا قرويا بدون طبيب؛ بل هو شأن أقاليم كثيرة بالمغرب، لم تستطع وزارة الصحة المغربية أن توفر فيها طبيبا قارا، فلا وجود لطبيب بجماعة تيلمي بإقليم تنغير، ولا بجماعة امسمرير، ولا جماعة إكنيون، ولا جماعة أيت الفرسي ولا بتامتوشت، وعدد كبير من جماعات طاطا وثلثي عدد المراكز الصحية بورزازات لا تتوفر على طبيب.
والأمر لا يقتصر على أقاليم الجنوب الشرقي، بل الأمر نفسه في عدد كبير من أقاليم المملكة التي يمكن حسابها ضمن “القفار الطبية” (les déserts médicaux) وهي مناطق يرفض الأطباء أن يذهبوا إليها، ولا توجد في المغرب فقط، بل في دول كثيرة، كفرنسا مثلا، التي تعتمد تحفيزات مالية وامتيازات كبيرة للقضاء عليها، حتى ينعم مجمل المواطنين في الدولة بالخدمة الصحية اللائقة.
بداية المشكل
في سنوات خلت، لم يكن هذا العزوف عن الالتحاق بالأماكن القروية النائية بهذه الدرجة من الحدة؛ فقد كان خريجو كليات الطب من الطب العام يتهافتون بأعداد تفوق بكثير المناصب المفتوحة للتباري. كان الطبيب العام المُعين يتقاضى أجرا يقدر بحوالي 7500 درهم في الشهر في السنة الأولى أو الأربع سنوات الأولى، وتمت زيادته إلى 8600 درهم خلال الـ8 سنوات الأخيرة. كما أن الطبيب الذي يلتحق من أجل استكمال التخصص، دون أن يكون قد أصبح موظفا بوزارة الصحة بأحد المراكز أو المستشفيات، كان يتقاضى أجرا لا يتجاوز 2000 درهم، على العكس من الطبيب العام الذي سبق أن التحق بالقطاع العام الذي يحتفظ بأجرته كاملة، والتي تتجاوز 8600 درهم.
يُرجع متتبعون أصل المشكل إلى أن هذا العزوف والتوجه نحو التخصص ناتج عن كون الوضعية المادية للطبيب الطالب الذي يتابع التخصص أصبحت محفزة أكثر من التوظيف بالمراكز الصحية، خاصة بالبوادي. كما أن التخصص سيضمن للطبيب على الأقل التعيين بمركز الإقليم أو المدينة بالإضافة إلى أجرة مريحة نسبيا.
سياسة تدبير الموارد البشرية
يرى يونس أعبدي أن “عدم التحاق الأطباء ببعض المراكز القروية مرتبطة بالأساس بمشكل أعقد يهم الشغيلة الصحية كلها، سياسة تدبير الموارد البشرية بوزارة الصحة تعد الأضعف بين نظيراتها في الوزارات الأخرى”.
ويتساءل أعبدي وهو الطبيب الداخلي بورزازات، في تصريحه لهسبريس، “كيف يعقل أن راتب الطبيب باعتباره صاحب التكوين الجامعي الأصعب والأطول بمدة تصل الـ8 سنوات، إضافة إلى نوعية عمله الذي يتميز عن باقي التخصصات بمسؤولية عظيمة، ألا وهي حياة الإنسان، كيف يعقل أن يتحصل على راتب السلم الـ11، في حين أن هناك تخصصات بسنين تكوين أقل تتحصل على أكثر من ذلك الراتب”.
المتحدث نفسه يزيد بأن “هناك ضرورة ملحة في إعادة النظر في راتب الطبيب العام والاختصاصي كأحد أبرز الأسس التي يمكن أن ينبني عليها أي حل لهذه الإشكالية”.
ويتدارك أعبدي: “وحتى وإن سلمنا بأن الراتب لا يعد إشكالا للبعض، ممن يتحلون بالقناعة، ويهمهم هاجس الوطن، وخدمة المواطن. فقبل أن يلتحق بوزارة الصحة، خاصة في منطقة نائية، هاجسه الأكبر السجن الذي سيرمي فيه نفسه. فما إن تطأ قدماه وزارة الصحة، حتى يصبح مستقبله في مهب الريح”.
ويوضح المصدر ذاته أن “وزارة الصحة تضع شروطا قاسية لمن يريد مواصلة تكوينه الجامعي في الاختصاص، وتلزم الطبيب بعقدة عمل لمدة 8 سنوات غير قابلة للفسخ من طرف واحد، إضافة إلى عدم إمكانية اجتياز مباراة التخصص إلا بعد عامين من العمل لأطبائها العامين مع محدودية الاختيار بين التخصصات تحددها هي مسبقا”.
تحفيزات مالية
يرى مندوب بوزارة الصحة يشتغل في إحدى المناطق المحسوبة على الـZAD (Zones à approvisionnement difficile en ressources humaines) وهي مناطق صعبة التزويد بالموارد البشرية، خصتها وزارة الصحة بامتيازات في انتقال الأطباء، مثل طاطا والعيون وسيدي افني وزاكورة وغيرها.. استقت هسبريس رأيه أن حل هذه المعضلة يكمن في فرض الخدمة الإجبارية، على أن تقدم الوزارة بعض التنازلات بخصوص إدماج الأطباء مباشرة بعد الخدمة.
وأوضح المصدر أن “الخدمة الإجبارية في المناطق النائية يجب أن تطبق الآن بشكل استعجالي لتجاوز الأزمة، بعد ذلك يتم اعتماد حلول أخرى”.
المسؤول ذاته، الذي رفض الكشف عن هويته، زاد بأن الأطباء لم يعودوا يرغبون أصلا في العمل في المراكز الصحية التي توجد فيها دار ولادة، هربا من المشاكل والدعاوي القضائية وغير ذلك.
وبخصوص التحفيزات المالية، أكد المتحدث أنها مرغوبة وستغير الوضع كثيرا، إلا أنها يمكن أن تفتح باب جهنم على باقي القطاعات؛ ذلك أن تشجيع الأطباء ماليا للاشتغال من أماكن تحسب صعبة سوف يدفع بالأساتذة إلى التوقف عن العمل، والحال نفسه بالنسبة إلى باقي موظفي الدولة الذين يشتغلون في هذه المناطق.
مقترحات لتجاوز الأزمة
لا يرغب العديد من مندوبي الصحة الذين اتصلت بهم هسبريس في الإدلاء بتصريحات، خاصة المنتمين إلى مناطق الـ ZAD، وهي المناطق التي تعاني خصاصا مهولا في الموارد البشرية الطبية، وفيها مناطق صنفت بأنها “سوداء” ولا يطرق الأطباء بابها عندما تعلن المناصب الشاغرة.
بعض مندوبي الصحة الذين اتصلت بهم هسبريس يقدم بعض الاقتراحات لتجاوز الأزمة الحالية ببعض هذه “الصحاري الطبية”، من قبيل “التعاقد لمدة معينة مع أطباء بمبالغ مالية شهرية مشجعة وامتيازات في السكن والتنقل”، إذ يورد مصدر لهسبريس أن “هناك مجالس منتخبة في آسا وطاطا لجأت إلى هذا الحل المؤقت وتعاقدت مع أربعة أطباء براتب شهري محترم”.
ومن مقترحات المسؤولين الإقليميين أيضا “زيادة 3500 درهم شهرية مثلا للأطباء الذين سيعينون في أقاليم صعبة كزاكورة وطاطا والسمارة وغيرها من الأماكن النائية”، و”تحفيزات في سرعة الانتقال واحتساب النقط، كاعتبار سنة واحدة في طاطا تعادل 4 بأكادير مثلا، وإعطاء الأولوية لولوج التخصص بعد قضاء 4 سنوات في منطقة نائية”.
من المقترحات التي ساقها متحدثون أيضا ويتمنون أن تأخذها الوزارة الوصية على القطاع الصحي في البلاد بعين الاعتبار “الانتقال الأوتوماتيكي بالالتحاق بالزوج أو الزوجة مثلا بعد قضاء سنتين أو ثلاث بمنطقة نائية”، و”تخويل صفة طبيب متخصص بعد قضاء 10 سنوات بالمناطق النائية”، مع ضرورة “تفعيل مضامين القوانين المتعلقة بالخريطة الصحية التي تحدد كيفيات توزيع الموارد البشرية والتجهيزات الطبية بالقطاعين العام والخاص”.
في انتظار الحل
بين من فكر في التعاقد مع أطباء من دول إفريقية، ومن يدافع عن أن الدولة يجب تفكر في جلب استثمارات صحية لهذه المناطق عن طريق تسهيلات ضريبية وتوفير العقارات اللازمة لبناء المصحات الخاصة، من يدافع عن الخدمة الإجبارية ومن يقترح تحفيزات مالية؛ تبقى المستشفيات في المغرب الشّقي فارغة من الأطقم الطبية والمعدات الضرورية.
من حق الأطباء أن يختاروا الأماكن التي يشعرون فيها بالراحة ويريدون الاشتغال بها، ومن حق المواطن المغربي الذي يسكن الأماكن النائية أن توفر له الدولة تطبيبا وخدمات صحية لائقة، وبين الحقين ضاعت مصالح البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة.
متابعة