رأيسلايد

لا تدفعوا المغاربة إلى الكفر بالاستقرار وركوب أمواج الفوضى والفتن

عبد الله حتوس
ما يقع ببعض مناطق الريف من احتجاجات، يطرح أكثر من علامة استفهام حول مآلات مشروع الطريق الثالث للإصلاح التدريجي في ظل الإستقرار الذي اعتمده النظام السياسي المغربي منذ بداية الألفية الثانية وازدادت وتيرته مع الربيع الديمقراطي سنة 2011 ، خصوصا وأن أحداث الريف ليست سوى نموذج لما وقع ويقع في مناطق أخرى من المغرب. فيوميات هذه الإحتجاجات تبرهن على أنه لا يمكن أن يكون هناك استقرار سياسي بدون عدالة اجتماعية، وبأن الإستقرار في واقع الأمر مسألة توازن، ذاك التوازن الذي لا يستقيم إلا بالإشتغال اليومي عليه كي لا يصير لا توازنا.
أحداث الريف وغيرها تتزامن مع شروع قطار الإصلاح ببلادنا في التوقف، صحيح أن المغرب غادر محطة الإستبداد لكنه ما زال بعيدا عن محطة الديمقراطية، وتوقف القطار في منتصف المسار يجعل نظامنا السياسي في منزلة بين المنزلتين، نظام هجين تتجاذبه “نوايا الإصلاح وإغراءات السلطوية” على حد تعبير الأستاذ عبد الله ساعف. إن هذا الوضع ليس شيئا آخر سوى نتيجة مباشرة للإختيارات السياسية والإقتصادية منذ الإستقلال ، واستمرار نفس الإختيارات لن تنجم عنه سوى نفس النتائج، بل قد يطلق رصاصة الرحمة على “الاستثناء المغربي” الذي كتب عنه الكثيرون وسوقته الدبلوماسية المغربية بعد نجاح المغاربة، سلطة وقيادات حركة 20 فبراير، في تجاوز محنة الربيع الديمقراطي سنة 2011.
بعد الثورة التونسية والفوضى الليبية والحروب الأهلية باليمن وسوريا والنكوص الإستبدادي المصري، ينتظر كل المتتبعين للوضع المغربي نتائج نموذج “الإصلاح في ظل الإستقرار” وما إن كان الأمر يتعلق بالفعل بطريق ثالث. ينتظرون، وهم يتساءلون، بعد تنامي الفعل الإحتجاجي وتداعيات تدبير تشكيل حكومة ما بعد الإنتخابات التشريعية لسابع أكتوبر2016 على الشأن الحزبي والسياسي، عن مآلات هذه السيرورة المفتوحة على كل الإحتمالات.
إن علامات الإستفهام المحيطة من كل جانب بالطريق الثالث المغربي وبنموذج الإصلاح في ظل الإستقرار، تقودنا إلى إمعان النظر في أهم العقبات والحواجز بالطريق، وإلى التفكير في الأغلال المكبلة للنموذج :
استمرار الدولة في تبني نظام اقتصادي للنمو قائم على إثراء الأغنياء وتفقير الفقراء بدل نموذج قائم على النمو الشامل الذي يعم الجميع بمكاسبه ويقلص الفوارق الاجتماعية. فالنتائج الاجتماعية الكارثية للنظام الاقتصادي المغربي، جعلت المغرب يقبع في أسفل السلم العالمي لمؤشر التنمية البشرية، فبلادنا تحتل الرتبة 125 من أصل 190 دولة، وقد جاءت متخلفة ليس فقط عن جيراننا المغاربيين (الجزائر، تونس وليبيا) بل حتى عن دول تعيش أوضاعا استثنائية كفلسطين.
استفحال الفوارق بين جهات المغرب، بما يزكي صدقية شعار المغرب النافع والمغرب غير النافع، فبالرجوع إلى مذكرة إخبارية حول الحسابات الجهوية صادرة عن المندوبية السامية للتخطيط سنة 2016 ، يتضح مدى اتساع الهوة بين الجهات وداخل كل جهة على حدة. فمن خلال أرقام المندوبية يتضح بأن الفرق شاسع بين الجهة الأغنى (جهة الدارالبيضاء – سطات) وثالث جهة غنية (جهة طنجة – تطوان- الحسيمة)، فالأولى وصل فيه الناتج الداخلي الخام 295 مليار درهم والثانية 87 مليار درهم سنة 2014. أما باقي الجهات فهي بعيدة جدا عن هذه الأرقام، بل تنعدم في الكثير من مدنها وقراها شروط العيش الكريم.
تدهور الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية وزحف البؤس على فئات كانت تعتبر في عداد الطبقات المتوسطة،(حسب البنك الدولي هناك أزيد من 5 مليون مغربي معرضون لخطر السقوط مجددا بين أحضان الفقر)، انعكسا على الشعور بالرضا والسعادة. هذا الواقع جعل المغرب يحتل مرتبة غير مشرفة في التقرير العالمي للسعادة الذي تصدره الأمم المتحدة منذ سنة 2012، فبلادنا تحتل المرتبة 84 من أصل 155 دولة شملها التقرير( ليبيا في المرتبة 68 والجزائر في الرتبة 53). إن ما يكتسيه هذا المؤشر من أهمية، راجع إلى المرتكزات التي يعتمد عليها والتي نذكر من بينها : ثقة المواطنين في الحكومة، المساواة، رخاء المجتمع، انعدام الفساد، نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي والحرية. إن ما يؤكد بأن المغاربة شعب تعيس، هو تنامي حالات إحراق الذات (آخرها حالة خالد قادر بحار الداخلة)، وتفشي حالات الإنتحار حيث كشفت منظمة الصحة العالمية بأن المغرب شهد 1628 حالة خلاص مأساوي من واقع بئيس غير محتمل (معطيات سنة 2012 ). تضاف إلى هذه الأرقام المؤسفة نتائج إحدى الدراسات الوطنية التي تشير إلى أن نصف سكان المغرب مصابون باضطرابات نفسية.
الوضع الكارثي للمنظومة التعليمية، أجهز على أحلام الملايين من المغاربة وخرب المصعد الإجتماعي وملأ التراب المغربي بالقنابل البشرية الموقوتة التي لا أحد يدري متى تنفجر ولا كيف ستنفجر. فحسب دراسة للبنك الدولي، يوجد أزيد من مليونين من الشباب المتراوحة أعمارهم بين 15 و29 سنة في وضعية NEET، بمعنى أنهم ليسوا على مقاعد الدراسة، ولا في سوق الشغل ولا في وضعية التدريب، هم في حالة فراغ يومي قاتل. يضاف إليهم كل سنة آلاف المغادرين للأقسام من ضحايا الهدر المدرسي.
الوضع الكارثي للإدارة المغربية والذي كان موضوع الخطاب الملكي ليوم 14 أكتوبر 2016 أمام أعضاء غرفتي البرلمان. فقد أصبحت الإدارة عصية على الإصلاح بعد أن نخرها الفساد والكسل والمحسوبية وانعدام الفعالية، وهي اليوم عصا كبيرة في عجلة التنمية بالمغرب ومبيد فعال لتكافئ الفرص والمساواة والعدالة. وللوقوف على حجم الأضرار الناجمة عن فساد البيروقراطية، يكفي التذكير بما كشفت عنه منظمة النزاهة المالية العالمية من معطيات صادمة بخصوص تدفقات الأموال غير المشروعة خارج المغرب، إذ أكدت بأن حجم الأموال التي تم تهريبها من المغرب إلى الخارج خلال الفترة الممتدة من 2004 إلى 2013 فاق 41 مليار دولار أمريكي. أما الإستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد المصادق عليها من طرف الحكومة شهر دجنبر 2015، فهي إعلان للنوايا ولا ترقى إلى دليل عملي على وجود إرادة سياسية لمحاربة الفساد.
إعتماد الدولة في تدبيرها للأوضاع الإقتصادية والإجتماعية الهشة على تكتيكات رجل الإطفاء بدل خطاطات مهندس البناء. فعوض سن سياسات عمومية شاملة تروم تقليص الفوارق الإجتماعية والمجالية وتحصين الطبقات الوسطى من التفقير وإعادة توزيع الثروة من خلال سياسة جبائية فعالة، تلجأ الحكومات المتعاقبة إلى شراء السلم الإجتماعي كلما ظهر لها بأن الأمور قد تخرج من تحت السيطرة. حصل ذلك مع حركة 20 فبراير حيث عمد عقل السلطة إلى بلورة رزنامة من الإجراءات لتهدئة النخب وشراء ولائها، فالمراجعة الدستورية استهدفت النخب السياسية والحزبية، والزيادة في الأجور ومراجعة أنظمة الترقي في الوظيفة العمومية كانت موجهة إلى النخب الإدارية، أما حملة الشهادات العليا المعطلين فكان نصيبهم من كعكة الحراك المغربي 4304 منصب مالي بموجب مرسوم للوزير الأول عباس الفاسي. سياسة إطفاء الحرائق بدل بلورة خطاطات تحول دون وقوعها، هي التي حكمت تدبير أحداث سيدي إفني سنة 2008 وأحداث مخيم “كديم إزيك” بالعيون سنة 2010، وغيرها من بؤر الإحتجاح، لعل آخرها أحداث الحسيمة المستمرة منذ طحن المواطن محسن فكري في شاحنة للأزبال يوم 28 أكتوبر2016.
التنزيل غير السليم لدستور يوليوز 2011، وما تثيره تأويلاته وإفراغ بعض فصوله من جوهرها الديمقراطي من تساؤلات، زاد من أعداد المشككين في متانة البناء الديمقراطي المغربي، وجعل الكثيرين يسلمون بتوقف قطار الدمقرطة في منتصف الطريق، وهو أمر يهدد ما روكم من إصلاحات منذ حكومة التناوب التوافقي وانتقال العرش مرورا بأشغال هيئة الإنصاف والمصالحة وأوراش الأمازيغية ومدونة الأسرة وصولا إلى مراجعة الدستور سنة 2011. من بين كل الذين لديهم تقييم سلبي للبناء الديمقراطي بالمغرب، نجد المجموعة الصحفية البريطانية ذائعة الصيت “دو إيكونوميست غروب”، التي أصدرت السنة الماضية مؤشرها للديمقراطية في العالم في نسخته التاسعة. فالمغرب حصل على نقطة 4.66 على عشرة، ما جعله يحتل الرتبة 106 من أصل 165 بلدا، وهو ما أهله ليكون عضوا في نادي الأنظمة الهجينة والمكونة من 40 بلدا غادرت نادي الإستبداد لكنها لا تتوفر على مقومات البلدان الديمقراطية. وأهمية مؤشر الديمقراطية نابعة أولا من كونه أصبح محل ثقة الخبراء والرأي العام، وثانيا من مرتكزات التقييم الخمس التي يعتمد عليها : النظام الإنتخابي والتعددية، الحقوق المدنية، الأداء الحكومي، المشاركة السياسية والثقافة السياسية.
رهان السلطة على تمييع الفعل الإحتجاجي، فعوض الإنصات إلى نبض الحركات الإحتجاجية وبلورة السياسات العمومية الكفيلة بإرساء دعامات سلم اجتماعي قائم على إحقاق الحقوق وتوفير الحد الأدنى من العيش الكريم وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، يشتغل عقل السلطة على ابتكار كل ما من شأنه تحويل الإحتجاج من فعل إيجابي مؤثر على محيطه وعلى صانع القرار، إلى فعل سلبي يستدعي الإستنكار من محيط المحتجين والقمع من أدوات السلطة. هذا الرهان يبدو خاسرا، لأن الفعل الإحتجاجي تطور بشكل لافت وأصبح سلاح المتضررين من السياسات العمومية، ليس فقط في المدن بل في البوادي أيضا والتي تعرف تنامي الوعي الحقوقي والسياسي. فالمغرب شهد سنة 2014 أزيد من 52 تظاهرة احتجاجية يوميا مقابل 8 احتجاجات سنة 2010 وخمس تظاهرات احتجاجات يومية فقط سنة 2008. (للمزيد من المعطيات راجع دراسة للأستاذ عبد الرحمان رشيق تحت عنوان : “الحركات الإحتجاجية بالمغرب من التمرد إلى التظاهر”).
إن ” الاستثناء المغربي” و”الطريق الثالث” أو “الإصلاح في ظل الإستقرار” لا يجب أن تكون شعارات للإستهلاك تلوكها ألسن السلطة في المناسبات، بل يجب أن تأخذ مدلولها الحقيقي كمجموع الإختيارات المجتمعية والسياسات والإجراءات الواجب اتخاذها والديناميات المفروض إطلاقها بغية استكمال البناء الديمقراطي وتمكين جميع المغاربة من العيش الكريم ومن كل الحقوق الفردية والجماعية. بلادنا مريضة والترياق المناسب في جيوب الحكم وهوامشه من النخب، إنه مزيج من السياسات العمومية ضد الفقر والهشاشة ولا تكافؤ الفرص، وسياسات ناجعة في قطاعي التعليم والصحة، تضاف إليها جرعات كافية من الإلتزام بالمبادئ الديمقراطية ومن الإرادة السياسية المؤسسة على الوعي بأن المصير واحد وأن لا أحد من مصلحته أن تغرق سفينة المغرب سواء تعلق الأمر بالربان ومساعديه أو البحارة أو عموم الراكبين.
فمتى يكون لجميع المغاربة ما يخافون عليه من الثورة والفتن والفوضى؟.

*باحث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى