محمد بودويك
إذا كان حاضر الإنسان العربي، في الجملة، تعيسا ومشطوبا، وَمُسْتَبْشَعًا من دول الغرب الأوروبي وأمريكا لأسباب يقف على رأسها الإرهاب الذي صار ميسما يدمغ العرب المسلمين من دون تمييز أو اعتبار، فإن مستقبلهم يتلامح صعبا تماما، أسود بما لا يقاس، متخلفا كما لم يحدث من قبل، مأساويا إلى حد الغرابة، والذهول. وليس من سبب وجيه، وَدَاعٍ منطقي لذلك إلا لكون الحاضر العربي الإسلامي المتشظي يؤشر على ذلك، ويفتح “شهية” الكلام لتصوير وتوصيف الآتي، القادم الجائي بِأَمَرِّ الأوصاف والنعوت وَأَدْهَاهَا، وأَمَضّ التصاوير وأشقها على النفس والعقل، إذ أن واقع العرب، الآن، لا يُبَشر بما يفيد التململ، والنهوض، والخروج من المَوات والبَيَات. ولئن كان الربيع العربي قد أزهر في أيام 2011 الأولى، موحيا بانبعاث وحياة للشعوب العربية بعد دحر الدكتاتورية، وإقامة العدالة، واعتناق الحرية والديمقراطية، فإن تَصَوُّحَ الزهور، وتَصَدُّعَ الأغصان، وتَكَسُّرَ الجذوع، وانهيار الهيكل الشجري العام، أقفل الموضوع سريعا، وغَلَّقَ الأبواب، أبواب الأمل والحلم تَغْليقا.
فالهَبَّات الجماهيرية التي اشتعلت هنا، وهناك، وأصاب شررها، عددا معتبرا من الدول العربية، سرعان ما انطفأت، واندحر مُشْعلوها، وتفرقوا أَيْدِي سَبَأ، ومنهم من زج به في السجن، بعد أن لفقت له تهم مفبركة كالمس بسلامة الأوطان، والإخلال بالنظام العام، وزرع الفوضى والفتنة في أوساط الناس” اللّي تحْتْ “، وإقلاق وإزعاج ” الناس اللِّي فوق”، والخيانة الوطنية العظمى، وهَلُّمَ تُهما، وتضييقا، وتلفيقا.
وما حدث بعد الصراخ والفوضى وَزَلْزَال الاعتصامات والمسيرات والشعارات، شيء فظيع لم يكن لنا عهد به، ولم يكن منتظرا، ولا مطروحا وواردا في الحسبان. إنه الخراب العام الذي ضرب أُسَّ المؤسسات، وأركان السلم والاستقرار، وامتد كالأخطبوط إلى البُنى التحتية، ومشخصات الحضارة، وروح البنيان الثقافي والوجودي لكثير من البلدان العربية التي شهدت الهبات المذكورة.
فالكثيرون –اليوم- نخبا وقواعد يحنون إلى الماضي القريب، ويتحدثون فيما بينهم عن واقع مصر وسوريا وليبيا والعراق واليمن وتونس، بالأمس، وواقعها اليوم. ما يؤدي بهم إلى الحسرة والندم على الوضع الخرب الذي آلت إليه هذه الأمصار على صعيد الأمن والسلام، وصعيد العيش الكفاف الذي كان مضمونا ومتاحا رغم التضييق الذي مورس على الحريات، والعدل الاجتماعي. وفي كل الأحوال، فإن الأسى الذي يعتصرنا ونحن نرى وننظر إلى ما حل من دمار تحتي وفوقي لأشقائنا هناك، هو الذي يرسم بالسواد القاتم غدَ ساكنة البلدان إياها، وفي مقدمتها : الأطفال = رجال الغد، ورهان المستقبل. فأي رجال، وأي رهان يمكن التحدث عنه في غياب شروط بناء الإنسان؟.
إن طفلات وأطفال وشباب البلاد المدمرة، الذين ظلوا حيثُ هُمْ لم يبرحوا أمكنتهم وأوطانهم وديارهم، أو الذين خرجوا هاربين مُهَجَّرِين عنوة وعلى رغم أنوفهم وحيلهم، ويعيشون أسوأ حال، ويعانون الويلات والأحزان وشَتَّى المصائب، وضروب الحرمان. فلا ماء ولا دواء ولا طعام ولا غطاء ولا علم ولا تعليم. بل هناك الجمر والرماد، والقصف، والجوع والعري، والتسول في بلاد الله الواسعة في مشاهد يؤطرها الإذلال والامتهان، والخنوع، والاستعطاء، وإراقة ماء الوجه، وهدر الكرامة. العالم بأطفاله وطفلاته، سماد الغد المأمول، وبذور الحلم المرتجى، ورهان التنمية المستقبلية، والسلام القادم على ألف جناح بينما أبناؤنا وبناتنا يتقدمون المشهد في أَبْأَس حال، مهيضي أجنحة، ومهصوري أبدان، ومتضوري بطون، ومهضومي حقوق وحياة ووجود.
فهل بهؤلاء الأطفال الذين يكبرون تحت القصف، والشُّحِّ، والرهبة، والتسول، والاستعطاء، هل بهؤلاء نسابق الأمم الأخرى إلى غدها، ونُحَاجِجُهُم برمادنا على نارهم، وبظلامنا على نورهم وضوئهم؟.
ليعلم الجميع بأنَّ الأطفال والطفلات العرب لا يدرسون، ولا يذهبون إلى المدارس، ولا يعرفون ما جرى لهم بعد أن فقد الآلاف منهم آباء مُعيلين، وأمهات حاضنات، وبيوتا آمنة، ومدارس زاهرة، وأعيادا رائقة، وزملاء وزميلات وأترابا كانوا يملئون سويا، سَمْعَ الأيام بصخبهم الجميل، وألعابهم الماتعة.
من هذا المنطلق، من قلب هذا الواقع الجحيمي المأساوي الذي يَصْلَى نَارَهُ أبناؤُنا وبناتنا في ليبيا، واليمن، والعراق وسوريا، يحق لنا أن نرسم للعرب المسلمين غدا أسود، غدا بلا غد، غدا مؤبدا غائصا غارقا في التخلف والظلام واللصوصية، والقمع، والإرهاب، والموت اليومي البطيء.
فكيف نتحدث عن العلم والفن والتكنولوجيا التي أصبحت قدر القرن الحالي، والقرون الآتية، وبيننا ملايين من فلذات أكبادنا يمشون على الجمر، والحرائق، والزجاج والمسامير، والتُّرَع القذرة المفتوحة، والبالوعات الخانزة الفاغرة والمفغورة؟.
كيف نتحدث عن الفتوحات التربوية والعلمية، التي ينعم بها الأغيار، “الكفار” في رأي من أوصلونا إلى التهلكة، وأخرجونا من التاريخ بسبب جهلهم وغبائهم، وهمجيتهم، وتصديقهم للخرافات، وإيمانهم بالبالي والمصنوع في تواريخ عربية قاحلة وسوداء؟ كيف، ورجالنا ونساؤنا غدا، والذين هم أطفال اليوم، خارج الحساب والتنمية، والعيش الآمن، والتربية الواجبة، والوعي المطلوب، والجسم المعافى؟ !
حزني عليهم، على أطفال سوريا، وأطفال العراق، واليمن وليبيا، وفلسطين المغصوبة والمسروقة، وهم عرضة للضياع والتشرد والشتات والبرد، والترحال القسري من مكان إلى مكان، ومن فضاء إلى فضاء، في حمأة النيران والعدوان، والاغتصاب، ومصادرة طراوتهم، وأخضر عودهم، وإلقامهم الجمر والريح، ومحو حياتهم، وطمس هناءة طفولتهم، وتشطيب وجودهم، وكيانهم.
حزني عليهم يغوصون إلى قاع القاع في الأمية المفروضة عليهم، والجهالة المضروبة حولهم وحول آبائهم وأمهاتهم.
خُمْصٌ، عرايا، ضائعون، يتسولون ويستعطون بلغة الراشدين الكبار، ناسين أن أندادهم في المدارس، وفي البيوت، يرفلون – على إقلال- في نعيم الدفء والخبز والحضن الرؤوم، والمدرسة الأم. هذه الأم الروحية الرمزية المغذية التي قال فيها شاعر النيل :
– الأم مدرسة إذا أعددتها // أعددت شعبا طيبا الأعراق
فأي شعب نُعِدُّ ونهيئ، والحال أنهم شعب، كما قلت، مشطوب، مستقبله في كف عفريت، وغده مجهول، مجهول لأنَّ لاَ مَسَانِدَ أمل تلوح مرتسمة في الطريق ولو كانت سرابا.
لكن، هل ما أصابنا قدر مقدور، وأمر شِيءَ لنا، وكُتِبَ علينا، أم نحن من كتبه على نفسه، وهيأ الأسباب والسبل، والوسائل والأدوات لزرعه، وغرسه، وتثبيته بعد تعهده بالماء، وحراسته بالمُولُوتُوفْ، والكلاشِينْكُوفْ، والقنابل، والمُدَى، والسكاكين، والمباغتات الراجمة، والسحل المادي والمعنوي في واضحة النهار؟.
الحكم الدكتاتوري العربي في العراق، وفي سوريا، وفي ليبيا، وفي اليمن، هو من استدرج – واعيا متقصدا أوْ لاَ واعيا أبله – الجماعات الإرهابية المختلفة، والمذاهب الدينية التي أفاقت وأتلعت رؤوسها، وطفقت تتقاتل باسم حقيقة مُدَّعَاة، ومزاعم مُفْتراة، فالدكتاتورية تلتقي موضوعيا وفي العمق مع الإرهاب، والفرق الموهوم بينهما هو أن الأولى تباشر القتل والتكميم والنفي والسجن في حق معارضيها الديمقراطيين، بزعم أن ما تقوم به “إرهاب مشروع” لأنه إرهاب الدولة بحسب الأوفاق التعاقدية بين الحاكمين والمحكومين، وأن الثانية تعتقد أن إرهابها ليس إرهابا بقدر ما هو إقامة حدود وشرع الله على من تعدى حدود الله. وتزيد: أن عملها “الجهادي” إنما هو في مرضاة لله، وتلبية لداعي الحق والواجب الإسلاميين !!.
وبين الكُّمَّاشَتَيْنِ، وهما كماشتان إرهابيتان عاريتان تنضَحَان عنفا، وتنزفَانِ حقدا وكراهية، يقع الآمنون المطمئنون، فإذا هم ذاهلون لا يعرفون ماذا يفعلون، وأنَّى يوفَكُونَ، وأخص من ينتفي مستقبله، وينمحي غده في رمشة عين، هم الأطفال، طلائع المستقبل والآتي، وأيُّ طلائع هي، وهي تسير حافية عارية شعتاء مغبرة، ممسوحة الملامح، شوهاء، قُضِيَ على أيامها، وغدها الذي كان يبشر بألف زهرة ونحلة وسماء صافية زرقاء. إرهاب مزدوج لم يُرَاعِ، لحظة، أنه زَجَّ ويزُجُّ بفلذات أكبادنا في مَتَاهِ الشقاء، وسراديب الموت، ويمسح بكعب سلاحه تاريخا عربيا قادما، وكيف يراعي ذلك وهو أعمى القلب والنظر.