بقلم خالص جلبي
أجمل الكتب التي توقظ
الوعي وتشحذ ملكة النقد ليست كثيرة، وأعظم عمل يعمله الفرد في بيته وضع
مكتبة من ذخائر الكتب لا تزيد عن بضع مئات في فترة عشر سنين. وكتابُ مثل
(القرآن) غيَّر التاريخ، وكتاب (رأس المال) لكارل ماركس تحوَّل إلى إنجيل
في يد الشيوعيين. و(الكتاب الأحمر) لماوتسي دونج كان وقود الثورة الثقافية
في الستينات. أما (الكتاب الأخضر) فلم يوزع إلا بقوة المخابرات والدولار
لقوم لم يقرؤوه، حتى قذف صاحبه وعائلته وعصابته بشواظ من نار ونحاس من
الثوار فلا ينتصران، ولم يعثر له على قبر وضريح. كما سبقه إلى نفس النتيجة
طواغيت لا يحصيهم عدد ويضمهم قاموس.
حين أقرأ قوله تعالى أن جهنم لها
سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم. أقول في نفسي في الغالب هذه البوابة
الجهنمية ستكون من نصيب طواغيت وملوك ظلمة وزعماء مزورين وقادة أحزاب و
ورؤساء دول مجرمين.
إنه منظر مثير في الآخرة أليس كذلك؟ حين نرى أولئك الذين ماتوا في عزة وشقاق كيف يصب عليهم الذل أطنانا.
أقوى الكتب ما ثبت وبقي مع الوقت. مثل قوة الذهب واليورانيوم. والناس تقرأ
حتى اليوم حكم كونفوشيوس، والطرق الثمانية لبوذا، وهكذا تكلم زرادشت
لفيلسوف القوة فردريك نيتشه. ويحلق (ابن خلدون) في مقدمته عبر القرون بكل
جبروت فيطل من علو، أما كتابه في التاريخ فلا يقرؤه إلا المتخصصون. وفكر
المعتزلة تم حربه وحرقه ولكن أفكار (إبراهيم النظام) في الطفرة ما زالت
تستهوي (محمد إقبال) فيكتب عنه في تجديد التفكير الديني في محاولة فهم مغزى
الزمن وحل معضلة زينون وميكانيكا الكم..
ويعتبر (برتراند راسل) أن
مائة دماغ في التاريخ يزيد وينقص كانت خلف أسرار النهضة في أوربا، ولو
أجهضت بشكل وأخر لسارت أوربا قرونا أخرى في ظل محاكم التفتيش حتى يرث الله
الأرض ومن عليها.
نحن نظلم التاريخ حين نقول أن أفكارا بعينها غيرت
مجرى تدفق الأحداث؛ بل يجب النظر إلى روح العصر وتفاعل عناصر لا حصر لها في
ولادة الأحداث، مثل انفجار الأمراض، وهو أمر نعرفه نحن الأطباء جيدا، ولذا
كان الطب علما والسياسة دجلا. وجانب كارل ماركس الصواب حينما زعم أن
الاقتصاد خلف كل شي، كما أخطأ فرويد حين نظر إلى أن الجنس أنه دينامو حركة
البشر والتاريخ، فالتاريخ عصي على كل تفسير.
ويحسن صنعا شرَّاح الفكر
الفلسفي في جامعة (مك جيل) في مونتريال حين يقولون للطلبة: يمكن لنا أن
نشرح لكم تدفق الأحداث من نهايتها، أما ماذا يحدث في الغد فعلمها عند ربي
في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
وحاليا نعرف أن الطيران بدأ مع القرن
العشرين لتوفر الآلة وعم في أكثر من بلد. والأشياء تبدأ صغيرة لتصبح كالسيل
العرم، ولا يتفطن لهذا التطور ـ كما يقول ابن خلدون ـ إلا الآحاد من
الخليقة.
ومن ملأ بيته بكتب السحرة تحول إلى ساحر. وعندما أدخل بيت
أحد الناس أعرف أين يعيش؛ فإن كان أعظم ما في البيت المطبخ والأواني عرفت
أنه خارج إحداثيات الزمان والمكان يعيش مثل السنوريات.
ودخلت بيت طبيب
عراقي يوما فرأيت الرفوف احتشدت بكتب ضخمة مذهبة العقب فسألني عنها حين
رآني أشمشم الكتب قبل كل شيء؟ وهي عادتي في دخول أي بيت جديد. قلت له عليك
أن لا تغضب مني فأنت تعيش عصر المماليك البرجية أيام سعيد جقمق. فوجئ
الرجل بكلامي مرتين بالحكم القاسي فقد كان يظن نفسه أنه يملك ذخائر
المعرفة، كما أنه لم يكن قد سمع بسعيد جقمق. وكلمة جقمق تعني بالتركية
ولاعة السجاير.
وفي النماص من عسير تحدثت مع طائفة من مثقفي القوم
فتحدثت عن فكرة ابن خلدون في النشوء والارتقاء، والانقلاب النوعي من
التراكم الكيفي، وعن مظاهر انحطاط العمران في الشرق، فاكتشفت أن بين القوم
من لم يسمع بعد بكاتب من حجم ابن خلدون.وحين تنسى الأمم رجالها من العقول
المبدعة فتودع منها.
وقبل أيام كنت أحدث شابا متدينا عن رياض الترك
الذي سجنه الطاغية سبعة عشر عاما في الإفرادية، في الوقت الذي كان واعظ
السلطان البوطي يقسم للطاغية أن ابنه يطير بجناحين من فضة في الجنة، ويأوي
إلى حواصل طير خضر؛ قال لم أسمع به؟ قلت له إنها أرض تجمع قومين من يعيش
بيولوجيا وفكريا،
والبوطي أقسم من منبر المسجد الأموي أن الجيش
الأسدي أشبه بصحابة رسول الله ص ـ وهم يدكون المدن السورية ويحرقون الناس
بالصواريخ على أبواب الأفران؟
وتذكرت الأتراك في ألمانيا فقد يعمل
العامل في مصانع (تيسين = الفولاذ) عشرين عاما، ولم يسمع عشرين كلمة عن
هايدجر وكارل ياسبرز وهيجل ونيتشه وموزارت وشوبنهارو من عمالقة الفكر
والفلسفة والموسيقى، لأن ألمانيا تعني له عملا مربحا وعشاء دسما وبرامج
ترفيهية.
وفي يوم خرجت من صلاة العشاء في بريدة من قصيم السعودية
فحدثت طبيبا اختصاصيا في الجهاز الهضمي من جامعات فرنسية عن توينبي المؤرخ
العملاق قال لم أسمع به؟ قلت له إنها كارثة فكرية؟ ألقى إلي نظرة غاضبة
وأجاب بحدة: هي لك كارثة وليست لي؟ قلت له صدقت غلبتني. ورددت في قلبي
حكمة الشافعي.
ومن قلب أمريكا أرسل لي طبيب يدرس في أحدث أبحاث
المناعيات إعجابه بواعظ شعبي؛ فتعجبت وعرفت أن العقل المسلم منشطر قسمين
فنصفه في الماء ونصفه في الطين، كما جاء في قرآن مسيلمة عن الضفدع؛ فالرجل
قال في يوم إن محمدا نزلت عليه سورة النحل والنمل والبقرة والفيل، وأنا
نزلت علي سورة عن الضفدع المسكين الذي لا يعيره أحد بالا: يا ضفدع بنت
ضفدعين.. نقي ما تنقين .. لا الشارب تمنعين .. ولا الماء تكدرين .. نصفك في
الماء .. ونصفك في الطين.
اقترح الباقة التالية من الكتب التأسيسية،
ففي الإيمان قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن، وفي الفكر الديني
كتاب (تجديد التفكير الديني) للفيلسوف الهندي محمد إقبال. وسوف أضع خارطة
لأهم الحقول المعرفية.
(1) فأولها يجب التزود بعلم التاريخ، ومن لم يعرف علم التاريخ يشك في فهمه للأشياء.
ومن أجمل ما قرأت كتاب (معالم تاريخ الإنسانية) لويلز، ثم يأتي كتاب تعب
عليه صاحبه نصف قرن من الزمن حتى أنضجه فاستوى على سوقه، هو قصة الحضارة لـ
(ويل ديورانت) وهو متوفر في مكتبات كثيرة، وهو 42 مجلدا، وكان الرجل لا
يكتب جزءً حتى يقرأ حوله خمسة آلاف كتاب، ويقوم ببعض الزيارات العلمية
للمكان الذي سيكتب حوله. والرجل كان قد كتب قبل ذلك كتابه (قصة الفلسفة)،
فكانت بيضة الذهب له، ودرت عليه من المال ما جعلته يتفرغ بقية عمره في ريف
كاليفورنيا لمشروعه الماموت فكتب (قصة الحضارة)، وقراءته مشروع هائل، فكيف
بإنتاجه؟ وقد يحتاج سنتين للقراءة المتأنية، أو أشهرا طويلا للقارئين
النهمين الجادين. ويضاف لهذا كتاب (مختصر دراسة التاريخ) وهو يختلف عن
ديورانت فهو كتاب تاريخي تحليلي مدهش لـ (جون آرنولد توينبي) وهو بريطاني
يعد حجة في علم التاريخ، كتب أيضا في نصف قرن تحليله للتاريخ في 12 مجلدا،
وأصل الكتاب باللغة الإنجليزية محتفظ به في مكتبتي وغير معروف في العالم
العربي. ثم اختصر عمله في أربع مجلدات، ترجمها الشبل للعربية، وهو كتاب
أكثر من رائع.
ويجب أن يضاف لهذه القراءات كتاب (أفول الغرب) لدماغ
ألماني فذ هو (أوسفالد شبنجلر) أثار كتابه حين صدوره في القرن العشرين ضجة
كبرى ويعتبر من مراجع التاريخ الهامة.
ثم عليك الانطلاق للأعلى
والأسفل، وقد تحتاج في هذا أن تقتني تلسكوب وميكروسكوب. بمعنى أن عليك
اقتحام لجة ثلاث علوم في هذا الصدد من:
(2) الكوسمولوجيا هي علم نشأة
الكون ومصيره والقوانين التي تحكمه. والبيولوجيا هي البعد الخامس بعد
الأبعاد الأربعة (الطول والعرض والارتفاع والزمن) فهي علم الحياة، وجعلنا
من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون؟
وكتاب (الكون) لكارل ساجان هو من
أبدع ما كتب في هذا الفن. وفي العلوم ينصح بكتاب (ارتقاء الإنسان) لبرونسكي
وهذا الرجل أذاعه بحلقات عن طريقة الإذاعة البريطانية فجاء أداء مميزا كما
هو الحال مع كتاب كارل ساجان عن الكون.
وبعد هذه العلوم الأربعة أي (التاريخ) و(الكوسمولوجيا) و(البيولوجيا) و(الفيزياء النووية)
(3) البيولوجيا و(4) الفيزياء النووية وذيولها الفلسفية؛ لأن الفيزياء
النووية لها علاقة بالرياضيات، ومفاهيم السلام لها علاقة وثيقة بتطوير
السلاح النووي، وكذلك كانت علاقة الفيزياء النووية مع مفاهيم الفلسفة
الراسخة، حيث قوضت ميكانيكا الكم حتمية الأفكار ويقينية القوانين الموضوعية
فقلبتها إلى احتمالية فافهم.
(5) الفلسفة فهي رحم العلوم: وهي جذع
الشجرة التي تولد منها ثمرات بقية العلوم، وهي بتعبير برتراند راسل
الفيلسوف البريطاني المنطقة التي لا اسم لها، والمعرضة للهجوم من الجانبين
من العلم والتيولوجيا.
وفي جامعة كونكورديا في مونتريال لاحظت أن هناك
كتب تبسيط للعلوم منها كتاب (الفلسفة للمبتدئين)، وهو كتاب يستحق أن يترجم
للغة العربية. ومن أراد لفكره أن ينتشر فعليه باللغة الإنجليزية، ومن أراد
لشمسه أن تشرق فلتكن من مغربها، كما حصل لإدوارد سعيد وسواه
(6) في
فلسفة العلوم اقترح كتاب فلسفة العلوم لمحمد عزام ولعابد الجابري المغربي
كتاب بنفس العنوان، وهناك كتاب قصة العلوم أو العلم في منظوره الجديد
للعالمين الكنديين روبرت آغروس وجورج ستانسيو في فلسفة العلوم.
و(7)الاقتصاد يطال جيب كل واحد منا ولذا فيجب أن نتحلى بالوعي الاقتصادي،
وكتب منيرة للوعي في هذا نادرة، وهي كتب متفرقة ويجب أن تكون اختصاصية.
وأكثر ما قرأت كان باللغة الألمانية. وهناك سلسة مجلدات ضخمة بعنوان
الكرونيك تبحث كل فن من البداية حتى النهاية حول أحداث القرن أو تاريخ
الجنس البشري أو تطور الطب أو المرأة في التاريخ أو مؤسسة الكنيسة
والمسيحية، وأتمنى أن تترجم هذه جميعا إلى اللغة العربية ويوضع مجلدا ضخما
عن تاريخ الإسلام من شتى الزوايا.
و(8) في علم الاجتماع تأتي كتب
عالم الاجتماع العراقي (علي الوردي) وخاصة دراسته الموسوعية للتاريخ
العراقي الحديث، وكتاب (ميلاد مجتمع) للمفكر الجزائري مالك بن نبي. ومن
أجمل ما قرأت في علم الاجتماع للوردي كتابه (منطق ابن خلدون) الذي نال عليه
لقب الدكتوراه والرجل أفادني كثيرا بشرحه لنظرية ابن خلدون، وأبدع في
مقارنته بين الفلسفة الاستقرائية والصورية التي أعاقت مسيرة الفكر
الإنساني.
وكان تعرفي على الوردي بنفس وقت التعرف على كتب (الصادق
النيهوم) النقدية فهو شيء خطير حقا، والرجل ليس مدرسة ولكن عنده التماعات
جميلة، عن معنى محنة ثقافة مزورة، ووظيفة الجامع والديمقراطية والصحافة
والأحزاب والغرب، وحينما قرأت له للمرة الأولى سحرني، ونقلت عنه فقرات
كاملة وأعاد لي الأمل في العقل العربي، ولا يمكن لأي إنسان أن يقرأ له
مقالة ألا وأنهاها، وفي بعض لمعاته لا يمكن للإنسان إلا أن يتأثر ويغير بعض
قناعاته كما حصل معي، وبذلك تكون أعظم الكتب تلك التي يدخل الإنسان إليها
بنفسية ويخرج وقد تغيرت نفسيته.
و(9) في السياسة يأتي كتاب (روبرت
غرين) عن شطرنج القوة الذي ترجمه البيجرمي ونشرته عبيكان، وهو كتاب يقرأ
مثل أكل الفاكهة، وأنا اقترحت على لجنة مكتبة عبيكان أن تفعل ما فعله بعض
الآباء في لبنان بإحياء ذخائر الكتب وطباعتها، كما حصل في كتاب الاعترافات
لروسو والخواطر باسكال.
و(10) في علم النفس اقترح كتاب تكنولوجيا
السلوك الإنساني من كتب سلسلة عالم المعرفة الكويتية، وكذلك كتاب عبد
الستار إبراهيم عن (الإنسان وعلم النفس) وهو من أجمل ما كتب باللغة العربية
فيحيط المرء بمدارس علم النفس وفروقاتها بطريقة لطيفة مختصرة.
و(11)
في (علم الأنثروبولوجيا) فلا يوجد من الكتب الدسمة بكل أسف ما يفتح مسالك
الفكر العربي، ومعظم ما استفدت به من هذا الفن لم تكن الكتب العربية قط، بل
في الغالب المصادر الألمانية بدقتها لمعهودة، وتتبعها لكل تطور مهما دق.
وإنسان نياندرتال بالأصل اكتشف قريبا من مدينة دوسلدورف الألمانية، وهو
إنسان من نوعنا اختفى من وجه البسيطة قبل 35 ألف سنة بعد أن عمر أكثر من
مائة ألف من السنين. ولعلي يجب أن أجمع ما كتبت في هذا عن إنسان لوسي
ونياندرتال والإنسان الحديث وإنسان الألفية وهي كلها مقالات هامة عن هذا
العلم فيمكن أن نصدر كتابا.
و(12) أبحاث السلام والعنف : ختامها مسك
هو أن كل هذه العلوم تشكل ضفيرة في النهاية لبناء دار تكون بردا وسلاما
للمؤمنين في قيظ حر العالم العربي، والكتابات من هذا النوع السلامي في
العالم العربي جدا هزيلة وفقيرة،ولعلي أنا وجودت سعيد هما من القلائل
اللذان كتبا في هذا الحقل، ولذا أنصح بالاطلاع على مؤلفات جودت سعيد في كتب
مثل (مذهب ابن آدم الأول) وكتابي في (سيكولوجية العنف وإستراتيجية العمل
السلمي) وكتاب خالد القشطيني عن (اللاعنف).
عن صفحة المفكر الدكتور خالص جلبي على الفيسبوك,
أجمل الكتب التي توقظ
الوعي وتشحذ ملكة النقد ليست كثيرة، وأعظم عمل يعمله الفرد في بيته وضع
مكتبة من ذخائر الكتب لا تزيد عن بضع مئات في فترة عشر سنين. وكتابُ مثل
(القرآن) غيَّر التاريخ، وكتاب (رأس المال) لكارل ماركس تحوَّل إلى إنجيل
في يد الشيوعيين. و(الكتاب الأحمر) لماوتسي دونج كان وقود الثورة الثقافية
في الستينات. أما (الكتاب الأخضر) فلم يوزع إلا بقوة المخابرات والدولار
لقوم لم يقرؤوه، حتى قذف صاحبه وعائلته وعصابته بشواظ من نار ونحاس من
الثوار فلا ينتصران، ولم يعثر له على قبر وضريح. كما سبقه إلى نفس النتيجة
طواغيت لا يحصيهم عدد ويضمهم قاموس.
حين أقرأ قوله تعالى أن جهنم لها
سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم. أقول في نفسي في الغالب هذه البوابة
الجهنمية ستكون من نصيب طواغيت وملوك ظلمة وزعماء مزورين وقادة أحزاب و
ورؤساء دول مجرمين.
إنه منظر مثير في الآخرة أليس كذلك؟ حين نرى أولئك الذين ماتوا في عزة وشقاق كيف يصب عليهم الذل أطنانا.
أقوى الكتب ما ثبت وبقي مع الوقت. مثل قوة الذهب واليورانيوم. والناس تقرأ
حتى اليوم حكم كونفوشيوس، والطرق الثمانية لبوذا، وهكذا تكلم زرادشت
لفيلسوف القوة فردريك نيتشه. ويحلق (ابن خلدون) في مقدمته عبر القرون بكل
جبروت فيطل من علو، أما كتابه في التاريخ فلا يقرؤه إلا المتخصصون. وفكر
المعتزلة تم حربه وحرقه ولكن أفكار (إبراهيم النظام) في الطفرة ما زالت
تستهوي (محمد إقبال) فيكتب عنه في تجديد التفكير الديني في محاولة فهم مغزى
الزمن وحل معضلة زينون وميكانيكا الكم..
ويعتبر (برتراند راسل) أن
مائة دماغ في التاريخ يزيد وينقص كانت خلف أسرار النهضة في أوربا، ولو
أجهضت بشكل وأخر لسارت أوربا قرونا أخرى في ظل محاكم التفتيش حتى يرث الله
الأرض ومن عليها.
نحن نظلم التاريخ حين نقول أن أفكارا بعينها غيرت
مجرى تدفق الأحداث؛ بل يجب النظر إلى روح العصر وتفاعل عناصر لا حصر لها في
ولادة الأحداث، مثل انفجار الأمراض، وهو أمر نعرفه نحن الأطباء جيدا، ولذا
كان الطب علما والسياسة دجلا. وجانب كارل ماركس الصواب حينما زعم أن
الاقتصاد خلف كل شي، كما أخطأ فرويد حين نظر إلى أن الجنس أنه دينامو حركة
البشر والتاريخ، فالتاريخ عصي على كل تفسير.
ويحسن صنعا شرَّاح الفكر
الفلسفي في جامعة (مك جيل) في مونتريال حين يقولون للطلبة: يمكن لنا أن
نشرح لكم تدفق الأحداث من نهايتها، أما ماذا يحدث في الغد فعلمها عند ربي
في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
وحاليا نعرف أن الطيران بدأ مع القرن
العشرين لتوفر الآلة وعم في أكثر من بلد. والأشياء تبدأ صغيرة لتصبح كالسيل
العرم، ولا يتفطن لهذا التطور ـ كما يقول ابن خلدون ـ إلا الآحاد من
الخليقة.
ومن ملأ بيته بكتب السحرة تحول إلى ساحر. وعندما أدخل بيت
أحد الناس أعرف أين يعيش؛ فإن كان أعظم ما في البيت المطبخ والأواني عرفت
أنه خارج إحداثيات الزمان والمكان يعيش مثل السنوريات.
ودخلت بيت طبيب
عراقي يوما فرأيت الرفوف احتشدت بكتب ضخمة مذهبة العقب فسألني عنها حين
رآني أشمشم الكتب قبل كل شيء؟ وهي عادتي في دخول أي بيت جديد. قلت له عليك
أن لا تغضب مني فأنت تعيش عصر المماليك البرجية أيام سعيد جقمق. فوجئ
الرجل بكلامي مرتين بالحكم القاسي فقد كان يظن نفسه أنه يملك ذخائر
المعرفة، كما أنه لم يكن قد سمع بسعيد جقمق. وكلمة جقمق تعني بالتركية
ولاعة السجاير.
وفي النماص من عسير تحدثت مع طائفة من مثقفي القوم
فتحدثت عن فكرة ابن خلدون في النشوء والارتقاء، والانقلاب النوعي من
التراكم الكيفي، وعن مظاهر انحطاط العمران في الشرق، فاكتشفت أن بين القوم
من لم يسمع بعد بكاتب من حجم ابن خلدون.وحين تنسى الأمم رجالها من العقول
المبدعة فتودع منها.
وقبل أيام كنت أحدث شابا متدينا عن رياض الترك
الذي سجنه الطاغية سبعة عشر عاما في الإفرادية، في الوقت الذي كان واعظ
السلطان البوطي يقسم للطاغية أن ابنه يطير بجناحين من فضة في الجنة، ويأوي
إلى حواصل طير خضر؛ قال لم أسمع به؟ قلت له إنها أرض تجمع قومين من يعيش
بيولوجيا وفكريا،
والبوطي أقسم من منبر المسجد الأموي أن الجيش
الأسدي أشبه بصحابة رسول الله ص ـ وهم يدكون المدن السورية ويحرقون الناس
بالصواريخ على أبواب الأفران؟
وتذكرت الأتراك في ألمانيا فقد يعمل
العامل في مصانع (تيسين = الفولاذ) عشرين عاما، ولم يسمع عشرين كلمة عن
هايدجر وكارل ياسبرز وهيجل ونيتشه وموزارت وشوبنهارو من عمالقة الفكر
والفلسفة والموسيقى، لأن ألمانيا تعني له عملا مربحا وعشاء دسما وبرامج
ترفيهية.
وفي يوم خرجت من صلاة العشاء في بريدة من قصيم السعودية
فحدثت طبيبا اختصاصيا في الجهاز الهضمي من جامعات فرنسية عن توينبي المؤرخ
العملاق قال لم أسمع به؟ قلت له إنها كارثة فكرية؟ ألقى إلي نظرة غاضبة
وأجاب بحدة: هي لك كارثة وليست لي؟ قلت له صدقت غلبتني. ورددت في قلبي
حكمة الشافعي.
ومن قلب أمريكا أرسل لي طبيب يدرس في أحدث أبحاث
المناعيات إعجابه بواعظ شعبي؛ فتعجبت وعرفت أن العقل المسلم منشطر قسمين
فنصفه في الماء ونصفه في الطين، كما جاء في قرآن مسيلمة عن الضفدع؛ فالرجل
قال في يوم إن محمدا نزلت عليه سورة النحل والنمل والبقرة والفيل، وأنا
نزلت علي سورة عن الضفدع المسكين الذي لا يعيره أحد بالا: يا ضفدع بنت
ضفدعين.. نقي ما تنقين .. لا الشارب تمنعين .. ولا الماء تكدرين .. نصفك في
الماء .. ونصفك في الطين.
اقترح الباقة التالية من الكتب التأسيسية،
ففي الإيمان قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن، وفي الفكر الديني
كتاب (تجديد التفكير الديني) للفيلسوف الهندي محمد إقبال. وسوف أضع خارطة
لأهم الحقول المعرفية.
(1) فأولها يجب التزود بعلم التاريخ، ومن لم يعرف علم التاريخ يشك في فهمه للأشياء.
ومن أجمل ما قرأت كتاب (معالم تاريخ الإنسانية) لويلز، ثم يأتي كتاب تعب
عليه صاحبه نصف قرن من الزمن حتى أنضجه فاستوى على سوقه، هو قصة الحضارة لـ
(ويل ديورانت) وهو متوفر في مكتبات كثيرة، وهو 42 مجلدا، وكان الرجل لا
يكتب جزءً حتى يقرأ حوله خمسة آلاف كتاب، ويقوم ببعض الزيارات العلمية
للمكان الذي سيكتب حوله. والرجل كان قد كتب قبل ذلك كتابه (قصة الفلسفة)،
فكانت بيضة الذهب له، ودرت عليه من المال ما جعلته يتفرغ بقية عمره في ريف
كاليفورنيا لمشروعه الماموت فكتب (قصة الحضارة)، وقراءته مشروع هائل، فكيف
بإنتاجه؟ وقد يحتاج سنتين للقراءة المتأنية، أو أشهرا طويلا للقارئين
النهمين الجادين. ويضاف لهذا كتاب (مختصر دراسة التاريخ) وهو يختلف عن
ديورانت فهو كتاب تاريخي تحليلي مدهش لـ (جون آرنولد توينبي) وهو بريطاني
يعد حجة في علم التاريخ، كتب أيضا في نصف قرن تحليله للتاريخ في 12 مجلدا،
وأصل الكتاب باللغة الإنجليزية محتفظ به في مكتبتي وغير معروف في العالم
العربي. ثم اختصر عمله في أربع مجلدات، ترجمها الشبل للعربية، وهو كتاب
أكثر من رائع.
ويجب أن يضاف لهذه القراءات كتاب (أفول الغرب) لدماغ
ألماني فذ هو (أوسفالد شبنجلر) أثار كتابه حين صدوره في القرن العشرين ضجة
كبرى ويعتبر من مراجع التاريخ الهامة.
ثم عليك الانطلاق للأعلى
والأسفل، وقد تحتاج في هذا أن تقتني تلسكوب وميكروسكوب. بمعنى أن عليك
اقتحام لجة ثلاث علوم في هذا الصدد من:
(2) الكوسمولوجيا هي علم نشأة
الكون ومصيره والقوانين التي تحكمه. والبيولوجيا هي البعد الخامس بعد
الأبعاد الأربعة (الطول والعرض والارتفاع والزمن) فهي علم الحياة، وجعلنا
من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون؟
وكتاب (الكون) لكارل ساجان هو من
أبدع ما كتب في هذا الفن. وفي العلوم ينصح بكتاب (ارتقاء الإنسان) لبرونسكي
وهذا الرجل أذاعه بحلقات عن طريقة الإذاعة البريطانية فجاء أداء مميزا كما
هو الحال مع كتاب كارل ساجان عن الكون.
وبعد هذه العلوم الأربعة أي (التاريخ) و(الكوسمولوجيا) و(البيولوجيا) و(الفيزياء النووية)
(3) البيولوجيا و(4) الفيزياء النووية وذيولها الفلسفية؛ لأن الفيزياء
النووية لها علاقة بالرياضيات، ومفاهيم السلام لها علاقة وثيقة بتطوير
السلاح النووي، وكذلك كانت علاقة الفيزياء النووية مع مفاهيم الفلسفة
الراسخة، حيث قوضت ميكانيكا الكم حتمية الأفكار ويقينية القوانين الموضوعية
فقلبتها إلى احتمالية فافهم.
(5) الفلسفة فهي رحم العلوم: وهي جذع
الشجرة التي تولد منها ثمرات بقية العلوم، وهي بتعبير برتراند راسل
الفيلسوف البريطاني المنطقة التي لا اسم لها، والمعرضة للهجوم من الجانبين
من العلم والتيولوجيا.
وفي جامعة كونكورديا في مونتريال لاحظت أن هناك
كتب تبسيط للعلوم منها كتاب (الفلسفة للمبتدئين)، وهو كتاب يستحق أن يترجم
للغة العربية. ومن أراد لفكره أن ينتشر فعليه باللغة الإنجليزية، ومن أراد
لشمسه أن تشرق فلتكن من مغربها، كما حصل لإدوارد سعيد وسواه
(6) في
فلسفة العلوم اقترح كتاب فلسفة العلوم لمحمد عزام ولعابد الجابري المغربي
كتاب بنفس العنوان، وهناك كتاب قصة العلوم أو العلم في منظوره الجديد
للعالمين الكنديين روبرت آغروس وجورج ستانسيو في فلسفة العلوم.
و(7)الاقتصاد يطال جيب كل واحد منا ولذا فيجب أن نتحلى بالوعي الاقتصادي،
وكتب منيرة للوعي في هذا نادرة، وهي كتب متفرقة ويجب أن تكون اختصاصية.
وأكثر ما قرأت كان باللغة الألمانية. وهناك سلسة مجلدات ضخمة بعنوان
الكرونيك تبحث كل فن من البداية حتى النهاية حول أحداث القرن أو تاريخ
الجنس البشري أو تطور الطب أو المرأة في التاريخ أو مؤسسة الكنيسة
والمسيحية، وأتمنى أن تترجم هذه جميعا إلى اللغة العربية ويوضع مجلدا ضخما
عن تاريخ الإسلام من شتى الزوايا.
و(8) في علم الاجتماع تأتي كتب
عالم الاجتماع العراقي (علي الوردي) وخاصة دراسته الموسوعية للتاريخ
العراقي الحديث، وكتاب (ميلاد مجتمع) للمفكر الجزائري مالك بن نبي. ومن
أجمل ما قرأت في علم الاجتماع للوردي كتابه (منطق ابن خلدون) الذي نال عليه
لقب الدكتوراه والرجل أفادني كثيرا بشرحه لنظرية ابن خلدون، وأبدع في
مقارنته بين الفلسفة الاستقرائية والصورية التي أعاقت مسيرة الفكر
الإنساني.
وكان تعرفي على الوردي بنفس وقت التعرف على كتب (الصادق
النيهوم) النقدية فهو شيء خطير حقا، والرجل ليس مدرسة ولكن عنده التماعات
جميلة، عن معنى محنة ثقافة مزورة، ووظيفة الجامع والديمقراطية والصحافة
والأحزاب والغرب، وحينما قرأت له للمرة الأولى سحرني، ونقلت عنه فقرات
كاملة وأعاد لي الأمل في العقل العربي، ولا يمكن لأي إنسان أن يقرأ له
مقالة ألا وأنهاها، وفي بعض لمعاته لا يمكن للإنسان إلا أن يتأثر ويغير بعض
قناعاته كما حصل معي، وبذلك تكون أعظم الكتب تلك التي يدخل الإنسان إليها
بنفسية ويخرج وقد تغيرت نفسيته.
و(9) في السياسة يأتي كتاب (روبرت
غرين) عن شطرنج القوة الذي ترجمه البيجرمي ونشرته عبيكان، وهو كتاب يقرأ
مثل أكل الفاكهة، وأنا اقترحت على لجنة مكتبة عبيكان أن تفعل ما فعله بعض
الآباء في لبنان بإحياء ذخائر الكتب وطباعتها، كما حصل في كتاب الاعترافات
لروسو والخواطر باسكال.
و(10) في علم النفس اقترح كتاب تكنولوجيا
السلوك الإنساني من كتب سلسلة عالم المعرفة الكويتية، وكذلك كتاب عبد
الستار إبراهيم عن (الإنسان وعلم النفس) وهو من أجمل ما كتب باللغة العربية
فيحيط المرء بمدارس علم النفس وفروقاتها بطريقة لطيفة مختصرة.
و(11)
في (علم الأنثروبولوجيا) فلا يوجد من الكتب الدسمة بكل أسف ما يفتح مسالك
الفكر العربي، ومعظم ما استفدت به من هذا الفن لم تكن الكتب العربية قط، بل
في الغالب المصادر الألمانية بدقتها لمعهودة، وتتبعها لكل تطور مهما دق.
وإنسان نياندرتال بالأصل اكتشف قريبا من مدينة دوسلدورف الألمانية، وهو
إنسان من نوعنا اختفى من وجه البسيطة قبل 35 ألف سنة بعد أن عمر أكثر من
مائة ألف من السنين. ولعلي يجب أن أجمع ما كتبت في هذا عن إنسان لوسي
ونياندرتال والإنسان الحديث وإنسان الألفية وهي كلها مقالات هامة عن هذا
العلم فيمكن أن نصدر كتابا.
و(12) أبحاث السلام والعنف : ختامها مسك
هو أن كل هذه العلوم تشكل ضفيرة في النهاية لبناء دار تكون بردا وسلاما
للمؤمنين في قيظ حر العالم العربي، والكتابات من هذا النوع السلامي في
العالم العربي جدا هزيلة وفقيرة،ولعلي أنا وجودت سعيد هما من القلائل
اللذان كتبا في هذا الحقل، ولذا أنصح بالاطلاع على مؤلفات جودت سعيد في كتب
مثل (مذهب ابن آدم الأول) وكتابي في (سيكولوجية العنف وإستراتيجية العمل
السلمي) وكتاب خالد القشطيني عن (اللاعنف).
عن صفحة المفكر الدكتور خالص جلبي على الفيسبوك,