اسرار بريس عبد الكبير أزروال
قبل حوالي شهر نشرت جريد “بريس 24” مقالا حمل عنوان: “بنكيران يدير ظهره لحميد شباط ويشكل الحكومة من دون حزب الاستقلال”.
حينها أثار هذا المقال بعض التعليقات الفيسبوكية المتسرعة، بل وغير اللائقة، إذ’ وجهت لنا سهام صادرة عن ما يسمى ب”الكتائب الإلكترونية” التابعة لحزب العدالة والتنمية، واستخف آخرون بما ذهبنا إليه في تحليلنا المتواضع، بكون الأمور ذاهبة إلى تخلي عبد الإله بنكيران عن حليفه اللدود حميد شباط الأمين العام لحزب الاستقلال.
لم نكن فيما كتبناه نخبط خبط عشواء، أو نتقمص دور “المحلل السياسي”، هذا الدور الذي أصبح، للأسف، مهنة يحترفها الكثيرون، ووفق التعبير العامي: “يا فم وما تقول..”.
بل كنا فقط نحاول مجتهدين قراءة الأحداث وتداعياتها، وما يكتب بالواضح وبالمرموز، وما يدلي به الفاعلون السياسيون من تصريحات وإشارات وأقوال، أو من يوحى إليهم بذلك، ممن يحق فيهم التعبير الانجليزي الشهير: “صوت سيده”…
وجاء التسريب الواضح لنهاية “أسبوع العسل” بين الميزان والمصباح، في خبر صغير على موقع المجلة الباريسية “جون أفريك”، وما أدراك ما “جون أفريك” المعروفة تاريخيا ب”خدماتها” الماركوتينغية، وقربها من كواليس المتحكمين في اللعبة السياسية بالعاصمة الرباط.
لقد وجد رئيس الوزراء المعين عبد الإله بنكيران نفسه في ورطة كبرى، بإعلانه عدم استعداده عن التخلي عن شباط، بل وزاد متبجحا أنه لا مجال لمحاولات تعكير المياه العذبة التي تنهمر من الشلال النازل من “باب الأحد” (مركز حزب الاستقلال) ويصب في المياه الصافية لبحيرة “التواركة” الهادئة، حيث مقر رئاسة الحكومة المغربية…
فجأة تغير المناخ، وهاج البحر، وارتفعت درجة الحرارة، وزاد ضغط الهوء الجوي، بل طغى اللون الأزرق على الخريطة، ومحى كل الألوان الأخرى، ألا نرى البحر على الخريطة من الفوق بلون آخر غير اللون الأزرق؟
هاج البحر وماج إذن، وهدد كل السفن والملاحين، وحدها سفينة كبرى عليها علم أزرق تتوسطه حمامة بيضاء، وضعت نفسها لإنقاذ كل السفن الصغيرة المهددة بالغرق.
واكتشف الناس أن “لامبة” بنكيران نفذت من الزيت، والزيت يباع في محل واحد في ملكية رجل أعمال اسمه أخنوش. فما على المعني إلا ابتياع حاجته من المحل المذكور، أو من أين له المغامرة في طريق كله ظلام وعتمة قد يفضي به حتما إلى الحافة.
وشاءت الأقدار أن تقع “حادثة موريتانيا” التي نتج عنها إصابة شباط بكسور ورضوض دبلوماسية تمنعه من المشاركة في مباراة تشكيل الحكومة، وكأن القدر استجاب لصلوات بنكيران، الذي يقول عنه أصحابه من المقربين أنه يقوم الليل ولا ينام قبل أدائه صلاة الفجر. شكرا يا الله على الهدية الثمينة، حقا “ما أغلق الله على عبد بابا بحكمته إلا وفتح له أبوابا برحمته..”، قالها بنكيران جهرا في نهاية صلاة فجر ذلك اليوم الذي بلغه فيه خبر إصابة الحليف اللدود في “حادثة موريتانيا”.
صرح الاستقلاليون بعد زلة لسان أمينهم العام، أنهم سيساندون البيجيدي على رأس الحكومة “مساندة نقدية” وأن الكراسي الحكومية لا تهمهم. فتلقفها بنكيران شاكرا حامدا، و”ساس” صاحبه شباط كمن ينفض الغبار عن كتفيه.
سارع رئيس الوزراء المعين، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، إلى التأكيد على قناعته أن الوفاء بالالتزامات عملة غير مقبولة في سوق السياسة. بل إن الأخلاق الحميدة، مثل الصدق والوفاء والنبل والشرف تتنافى مع فعل السياسة. هنا سينتصر الشيخ الجليل نيقولا ميكيافيلي رضي الله عنه وأرضاه، على المسمى ابن تيمية ومن والاه. و”يا ربي تسمح لينا..”.
سارت الأحداث بسرعة فائقة، أخنوش يضع العصا في عجلة بنكيران المستعجل لإنهاء تشكيلته الوزارية، بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على تعيينه من طرف الملك.
وكأن عبد الإله بنكيران من مجالسي الكاتب والصحفي المشهور إدريس الخوري بنادي “الشاربان”، الخوري المعروف لدى أصدقائه ب”بّادريس”، إذ سيستعين بنكيران بعبارة صاحب “حزن في الرأس والقلب”، ويخرج على الرأي العام في بيان مقتضب وقعه بصفته الحزبية قائلا: “انتهى الكلام”… وفينك يا بّا دريس…
لا أشك أن إدريس الخوري، شفاه الله، سيضحك ضحكته المجلجلة مادّا رجله، ساخرا ليقول لبنكيران: “وأنت سييير…”…
ثم ابتعدنا عن نادي “الشاربان” (على وزن الطالبان) المقابل لكلية الآداب بالرباط، ووصلنا إلى واقعة انتخاب رئاسة البرلمان قبل تشكيل الحكومة. الاستحقاقات الإفريقية تسوجب ذلك، ومؤتمر الاتحاد الافريقي على الأبواب ولا مجال…
هنا سيسحب الاستقلال مساندته لبنكيران، فقيادة “باب الاحد” لم توقع شيكا على بياض للرئيس المعين ولا لغيره. وفي افتتاحية واضحة لجريدة “العلم” كتبت إن المواقف التي اتخذها المجلس الوطني للحزب “اشترطت بناء تحالف مع القوى الديمقراطية. ورغم أن بنكيران تخلى على حزب الاستقلال مبكرا فإن هذا الأخير لم يتسرع بردة فعل غير محسوبة، لكن أن يسلم الأستاذ بنكيران بالأمر الواقع و يستسلم للابتزاز بصفة كاملة فإن حزب الاستقلال لن يكون معنيا بالخنوع و الرضوخ ولا بد له في هذه الحالة من إعادة النظر في مواقفه السابقة، التاريخ آنذاك سيسجل.”.
وبعدما كان الكلام يجري حول عودة “الكتلة الديمقراطية” إلى الواجهة الحكومية بقيادة العدالة والتنمية، في صيغة ما سماه الفقيه محمد البصري ب”الكتلة التاريخية” ونظر له محمد عابد الجابري في كتاباته. تم الإعلان رسميا بوفاة وطمر “الكتلة الديمقراطية”، فها هو حزب الاستقلال يصف مرشح حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الحبيب المالكي ب”حصان طروادة”.
لم يبق هامش المناورة واسعا أمام بنكيران، وكلامه عن إعادة “السوارت” لا ينطوي على أي حقيقة أو مصداقية، وفاقد الشيء لا يعطيه، فأي مفاتيح يملك هذا الشعبوي الكبير، إن كان لديه حقا مفاتيح فليفتح بها الباب الذي أغلقه على نفسه بيده، أو تم إغلاقه عليه بإحكام.
“تبقى وحيدا وتندم”.. عنوان لرواية قديمة لكاتب عربي تلخص مآل عبد الإله بنكيران..
وهل ينفع الندم؟..
الأزمة الساطعة آتية. لننتظر.. وإن غدا لناظره لقريب…
زر الذهاب إلى الأعلى