حوادثسلايد

“ثورة الصغار” في قرى جبال الأطلس “تفضح” سياسة الكبار

اسرار بريس
لم تكد المقاهي الصغيرة المشكلة لأكبر شارع في إملشيل تشعل حطبها لتدفئة الأجواء الباردة وملء كؤوس شاي صباح هادئ مثله مثل سائر الأيام، حتى انبعثت أصوات غاضبة مجلجلة تقترب بسرعة من المكان؛ حيث تسمر الجميع، ولا سيما الغرباء، في انتظار رؤية مصدر الجلبة.
ما هي إلا لحظات حتى ظهر عشرات الأطفال الصغار، قادمين من الداخلية التابعة لإعدادية إملشيل ومتوجهين صوب جماعة البلدة الصغيرة، الواقعة بجبال الأطلس الكبير، للاحتجاج والتظاهر ضد الظروف المزرية التي يكابدونها في غرف الداخلية؛ حيث كانت آخر مرة غيرت فيها الأغطية مطلع الألفية الثانية، وفق شهادات بعضهم لهسبريس.
مظهر نادر جدا اجتمعت فيه شعارات التنظيمات الحقوقية والحركات الاحتجاجية التي تقف عادة أمام البرلمان مع براءة أطفال معظمهم لم يتجاوز العقد من الزمن بعد، لكن جرعة النضج لديهم كانت أكبر بكثير من أعمارهم، وهو ما بدى في قدرتهم على التنظيم بشكل محكم ظل محافظا على شكل الحلقية رغم بعض التجاوزات التي لا تغيب عن الكبار.
فاطمة ذات العشرين ربيعا إلا سنتين، بخديها الحمراوين من فرط الصقيع، أسقطت كل المفاهيم الذكورية السائدة في مجتمعات المغرب غير النافع، بعد ما توسطت حلقية الوقفة الاحتجاجية تاركة باقي صديقاتها وزملائها يرددون بالتزام تام ما تصدح به حنجرتها الصغيرة ذات اللكنة الأمازيغية الصرفة من رسائل مألوفة، من قبيل “زيرو.. لا نظام لا تسيير.. زيرو”، “صامدون صامدون للنضال صامدون”.
“نأكل في أواني صدئة، وننام تحت أغطية متسخة ونغتسل بالمياه الباردة .. وأكثر الأمراض التي تمرض بها الفتيات عادة في الداخلية سببها غياب النظافة والماء الساخن”، تقول فاطمة بحرقة عكستها نبرة صوتها. لا يتوقف شريط معاناتها رفقة باقي أبناء قريتها الصغيرة والمعزولة، لتستطرد من جديد: “تأتي المعاونات من مؤسسة محمد الخامس ولا يصلنا منها شيء، وحتى المنحة الشهرية البالغة قيمتها 200 درهم لا نتوصل بها منذ العام الماضي”.
وفي الوقت الذي كانت تتحدث فيه القيادية الصغيرة لهسبريس، لم تنغلق أفواه باقي الصغار عن المطالبة بحقوقهم بحرارة نابعة من أجسادهم الصغيرة رغم قساوة المناخ بالمنطقة؛ حيث تستقر غالبا درجات الحرارة تحت معدل الصفر، ما أتاح للبعض منهم استعادة شريط طفولته بالتزحلق فوق بياض الثلج المتناثر كالفطر في الأرجاء.
خيط كلام فاطمة حول الوضعية التي يعيشها تلاميذ الداخلية، التقطه الحسين أولحا، شاب آخر من جيل إملشيل الصاعد، خشونة صوته تجعل منه رجلا قبل الموعد، فيما قسمات وجهه أخذت منعطفات حادة لحظة حديثه عن واقع المكان الذي يدرس به، لينفجر غاضبا بعبارات أمازيغية صرفة لم تكن إلا سهاما لنقد المسؤولين على المؤسسة التعليمية المذكورة.
“في الصباح، لما سمع المسؤولون أن التلاميذ سيقومون بتنظيم إضراب واحتجاج أمام مقري الجماعة ولاحقا القيادة، علقوا لنا إعلان الامتحان ضدا على تحركنا”، كلام اولحا في حق القائمين على الشأن الإداري والتربوي بالداخلية دفع هسبريس إلى التحرك صوبها لاستجلاء حقيقة ما يقع هناك، إلا أنه وبمجرد علم المسؤولين بوصول الفريق أغلقت الأبواب، وغاب المدير في بضع دقائق بعد أن كان منتظرا أن يتم استشارته في أمر المقابلة وهو داخل المؤسسة.
في إملشيل، تجرأ الصغار على قطع السكون المخيم على المكان والثورة على صمت جبال البياض المنتصبة حولهم، ترجلوا بخطوات قصيرة في طريق طويل يمتد لبضعة كيلومترات ونصفُ جبلٍ صوب قيادة البلدة الصغيرة، فيما ظل العقلاء جالسين على مقاعدهم المهترئة في المقاهي ينثرون دخان سجائرهم، ويعيدون تكرار الأحاديث نفسها واحتساء أكواب الشاي في انتظار المساء، ومن بعده الصباح التالي.عن هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى