يكاد يذكرني هذا الوضع الذي يعيشه عالمنا العربي في شطريه الشرقي والغربي ،والذي تتقاذفه أمواج الردة والرجعية والتطرف والغلو بنقيضيه الديني والثقافي ، والمشهد الذي تعرفه بعض الحركات الدعوية وغيرها من جمعيات البر والإحسان ، بتلك السلسلة الشهيرة من الرسوم المتحركة (Tom et Jerry) والتي كنا نقبل عليها بشغف كبير في الأيام الجميلة للتلفزيون المغربي ، حيث كنا نترقب مقالب الفأر ونتفاعل معها ونتعاطف مع القط ونأسف لمصيره ، غير أن براءة الطفولة كانت تحجب علينا أن القط والفأر يتصارعان على مصالحهما الضيقة ويتحالفان ضد الدخيل الذي لا يتقاسم معهما مكسب الغنيمة والربح ، وهذا ما يجسد وبالملموس الكم الهائل من جمعيات الوعظ والإرشاد التي ترتدي لبوس الخير والتقوى ثارة ، والسرية في كثير من الأوقات ، وتنهج التقية في التعبير عن مواقفها في السر والعلن، جاعلة الجماعة موطنها الأصلي والبيترودولار والسيف ورمال الصحاري وإمارة الخلافة والجماعة مرجعيتها الفكرية والثقافية ، ناسية ومتناسية على أن المغرب أمة لها من العمق التاريخي والمرجعية الدينية، والمؤسسات الشرعية الوطنية ،ما يجعلها آمنة مطمئنة ،لاتتأثر بريح عاتية من المشرق أو هواء زائف من الغرب، آخذة من الوسطية والاعتدال والتنوع الثقافي والتعدد الفكري مرجعها الأصلي .
ولا بأس بأن نهمس لهؤلاء ومن يدور في فلكهم ،ويتحمس في بعض الأحيان لمواقفهم ،من أجل إحداث التوازن المرجعي الزائف، والثقافي البائد والحزبي الضيق ، أن نذكره بأن ثرات علماء الغرب الإسلامي ،ورجالات التصوف واجتهادات فقهائه ،مازالت شاهدة عليهم في الأمصار والأوطان ،التي عمروها أو مروا منها شرقا وغربا ، وساهموا إلى حد ما في تألق الحضارة الإسلامية ،ولمعان فكرها وثقافتها، ويكفي لنا فخرا أن نذكر ابن رشد وابن خلدون وابن بطوطة ولسان الدين ابن الخطيب ،وغيرهم من فطاحلة العلم والفكر والآداب والشعر ،الذين جعلوا من هذه الأمة المغربية منارة للفكر والتنوير والاعتدال ، الذي تواصل من جيل إلى جيل ،دون أن تأخذه جاذبية الحداثة الزائفة ،ولا عتمة الرجعية الضالة ، بل حافظ على توهجه الحضاري ومنطقه الفكري السليم، وتنوعه الثقافي في هذا الجزء الغربي من العالم الإسلامي ، ولا بد أن نستحضر في كل قراءاتنا لمشهدنا المجتمعي، وبكل تموجاته ومنعطفاته التاريخية الدقيقة والحساسة، أن المغاربة شعبا مهما اختلفت تحاليلهم وانعرج فكر بعضهم، يجمعهم وعاء ثقافي حاضن، قادر على صهر كل التيارات والموجات، وتذويبها في قالب مغربي محض، يؤمن بالتعددية والتنوع والاختلاف .
إن عود الثقاب الذي يجعل من الحطب نارا ،ويذكي فتن المرجعيات الدينية بقصد وغير قصد ،إنما يجهل أن التوازن الفعلي والحقيقي في المجتمع ،هو ما تركه لنا الأجداد من تراث ، وما حققه جيل ما بعد الاستقلال من تراكمات صائبة، ومؤسسات وطنية قائمة الذات ،تحفظ للوطن هيبته ،وللفكر رحابته ،وللإبداع حريته، ولابأس من أن ننخرط إن كان للطرف الأخر رغبة في الحوار والنقاش، بذل لغة التكفير والاضطهاد ،في نقاش علمي محمود ،على مختلف المرجعيات، شريطة أن يجمعنا وطن واحد، وأن تكون قبلته الإيمان بثوابت الأمة ،وقاعدته حرية الكلمة والقلم
.